هكذا انتقلنا الى هوارة وهي منطقة سوسية تقع وسط سهل سوس الخصب المشهور وطنيا بالفلاحة خاصة الحوامض والبواكر ، تحدها غربا مدينة أكادير و شرقا مدينة تارودانت. ازدهر القطاع الفلاحي بهذه المنطقة حتى أصبحت من بين أهم المناطق المغربية التي يعتمد عليها الاقتصاد الوطني داخليا وخارجيا. وتُشغل المنطقة يدا عاملة مهمة سواء من أبناء المنطقة أو من الوافدين عليها من مختلف مناطق المملكة ، كعاملين بمعامل التلفيف أو في الحقول.
وتبقى النسبة الكبيرة من العاملين بهذه الحقول من النساء، أغلبهن قادمات من مختلف المناطق المغربية كمدينة الصويرة ، الجديدة ، آسفي ، بني ملال …. تلك النساء اخترن التوشح بمناديل لتغطية وجوههن هربا من نظرات الاحتقار والتحرش اليومي المستمر في ظروف قاسية، همهن الوحيد هو الحصول على دريهمات تحفظ لهن كرامتهن كنساء مغربيات مكافحات. و أول ما يشد انتباهك بمدينة أولاد تايمة ، عاصمة هوارة ، مع التباشير الأولى للصباح، هو أفواج من النسوة يتنقلن جماعات وفرادى حاملات لمؤونتهن اليومية على طول شارعي الحسن الثاني و محمد الخامس قادمات من أحياء الكرسي ، الشنينات ، الحريشة ، بوخريص ، الرطيم … وهي أحياء شعبية تضم شريحة مهمة من العاملات اللواتي اخترن الاستقرار بهذه الأحياء نظرا للمبالغ الكرائية المنخفضة بها ، مما يسهل استقرارهن رفقة أسرهن أو من خلال كراء منزل يتقاسمن غرفه.
و في محاولة منهن للتنقل اليومي صوب الضيعات الفلاحية الموجودة بالمنطقة ، تراهن يحاولن صعود سيارات فلاحية ” بيكوب ” أو أدراج شاحنات مخصصة لنقلهن للضيعات والحقول ، في منظر لا إنساني ، ملتصقات ببعضهن البعض ، وفي أحيان كثيرة يختلط الرجال والنساء ليلتصق الجميع وتبدأ معاناة من نوع آخر ، تُنتهك فيها حرية المرأة وكرامتها ، نساء عازبات وأمهات عازبات و مطلقات ومتزوجات من مختلف الأعمار كل همهن هو البحث عن مورد رزق شريف يسد رمق عائلاتهن مقابل 350 درهما في الأسبوع أي ما يعادل 50 درهما لليوم الواحد. نساء متزوجات و أمهات ، اضطرتهن الظروف الصعبة في ظل الارتفاع المهول للأسعار بأن يقتحمن حقول و ضيعات هوارة ، وكان لقاؤنا خفية مع بعضهن لتروين لنا قصصهن
زهرة واحدة من النساء العاملات في حقول هوارة متزوجة وأم لخمسة أطفال اختارت مساعدة زوجها في مصاريف و أعباء البيت ، حيث قررت الخروج للحقول مقابل أجر 50 درهما لليوم تستخلصه نهاية كل أسبوع. معاناة هذه السيدة تبتدئ مع بزوغ فجر كل يوم حيث تستيقظ كل صباح على الساعة الرابعة صباحا لتنهمك في إعداد وجبتي الفطور والغذاء وإعداد وطهي الخبز لها ولأبنائها ، لتتزود بعد ذلك بمؤونتها وتنطلق للعمل على الساعة السادسة صباحا هي وزوجها كل في اتجاه حقله ، الزوجة التي تشتغل أكثر من 10 ساعات في اليوم تترك ابنتها التي تبلغ 4 سنوات لدى والدتها التي تقطن بالقرب منها.
وفاء، تبلغ من العمر 35 سنة، اقنعناها بصعوبة بأن تروي لنا قصتها لتقول " الظروف قادتني لأن أصبح عاملة. أنا انحدر من نواحي مدينة بني ملال، تعرضت لاغتصاب جسدي في احد الايام وطردني أهلي هكذا الى ان تعرفت على زوجي وانجبت منه طفلتين، وهو الرجل البسيط الذي كان سندي في الوقت الذي كنت في أمس الحاجة له، و اليوم لابد ان اعمل كي اساعده أكبر بناتي تبلغ 15 سنة وهي تعتني بأختها وبالبيت اثناء غيابي وتدرس..أعمل واستحمل البرد و الحر و الحشرات والمعاملة السيئة وحتى تحرش البعض و شح المدخول من اجل زوجي وبناتي، لا اريد ان يعانين ما عانيته ولو قليلا "
سكينة 27 سنة، فتاة جميلة لم تنصفها الاقدار لتستكمل دراستها وهي اليوم المعيل الاكبر لأسرتها بعد ان توفي والدها : " حالي لا يختلف كثيرا عن باقي نساء الضيعة، أستيقظ قبل بزوغ الفجر احضر الفطور لأهلي و بعدها، اذهب للوقوف على الطريق المخصصة لاختيار العاملات التي يجب ان اصلها قبل الخامسة صباحا لتأتي بعدها العربات وتتكس فيها النساء على اختلاف اعمارهن، هذه العربات تذهب بنا الى الضيعات، وتختلف المحاصيل بشكل موسمي مع اختلاف الفصول، كما الاجرة التي تتراوح بين 50 و 70 درهما لليوم مقابل ملئ ما يقارب 30 صندوقا للواحدة من البرتقال او الحوامض عموما و التي تشتهر بها المنطقة. على الساعة السابعة نعود أدراجنا لنمارس هذا العمل بشكل يومي..قد يكون عملا شاقا لكنه ضروري هكذا نكسب قوت يومنا بالحلال وان كان بسيطا وغير قانوني .. "
ويقول محمد فرتال احد الفاعلين الجمعويين بالمنطقة : " ان ما تتعرض له النساء العاملات في الضيعات شيء مخجل فعلا فهن تتحملن قساوة البرد و الحر وكذا الاهانة و الذل واحيانا كثيرة التحرشات الجنسية، التي تضطر بعضهن للانصياع لها مقابل زيادة في الاجرة او عدم طردها ..كل هذا معروف ولا زال الصمت سيد الموقف "
وهذا ما يؤكد عليه المحامي عبد الحق الناصري الذي صرح لنا أن مدونة الشغل المغربية لا تهتم بالعمل الموسمي إلا فيما يتعلق بحق الاستفادة من تعويضات حوادث الشغل، وهو الأمر الغائب حتى في هذه الضيعات التي لا يصرح مشغلوها بالعاملات المتواجدات فيها، ف"هم يستغلون عدم اهتمام القانون المغربي بالعامل الموسمي، ليشغلن العاملات لمدة طويلة على أنهن عاملات مؤقتات وبعقود شفوية"
وضع مهين تعانيه تلك النساء التي تئدن كل امالهن واحلامهن وحقوقهن مقابل بضع دريهمات يسدن بها رمق عيشهن..