Print this page
24
كانون2/يناير

ساحة "جامعة الفنا" بمراكش.. موطن الفنية الهجرة لكسب قوت العيش

يحجون إليها من مناطق نائية بحثاً عن مصدر رزق. تعد بالنسبة لمشاهير العالم عاصمة السياحة، ويرى فيها الفقراء من المبدعين، فضاء لكسب قوت يومي. هذا حال مدينة مراكش المغربية، خاصة ساحة "جامع الفنا"، التي تعد مقصد السياح الأول، ونقطة التقاء محترفي فن "الحلقة"، بمختلف فقراتها الموسيقية والفرجوية.

هشام الشريف العيساوي، واحد من رواد فن الحلقة بساحة "جامع الفنا"، دفعت ظروف العيش بقرى إقليم "قلعة السراغنة" أجدادهم للهجرة نحو مراكش، ولم يجدو غير فن تقديم العروض الموسيقية، لكسب قوت يومهم.

ويقول هشام للموقع، إنهم ينتمون لتراث مجموعات "عيساوة"، الذين يعرفون بـ"أولاد سيدي رحال" و"أولاد بويا عمر"، وحرفتهم الرقص مع الأفاعي والعقارب والحيوانات الضارية، التي يجلبونها من مسقط رأسهم.

ويضيف المتحدث ذاته، أن مصدر رزقهم هو المغامرة، واقتناص دهشة السياح ، خاصة الأجانب منهم، أمام ما يمارسونه من فن، لا يستطيع غير المدربين على ذلك احترافه.

وبالعودة إلى هشام العيساوي، يكشف هذا الأخير أن أجدادهم هاجروا إلى مراكش منذ سنوات الستينات، وقصدوا المدينة للبحث عن مورد عيش. ثم انتقلت حرفة الفرجة بموروثهم الثقافي والفني عبر الأجيال.

ويضيف هشام، أنهم هنا بالوراثة، ولم يرغبوا في تغيير الحال الذي وجدوا عليه. بل ذهب هشام حد القول، بأن تجارب أصدقاء لهم مع اكمال دراستهم، والبحث عن فرصة عمل لم تكن موفقة، لأجل ذلك، فضل هو والمجموعة التي معه احتراف فن "الحلقة العيساوية" هنا بين أحضان ساحة "جامعة الفنا".

ويشدد هشام على أن "مورد رزق مضمون، موروث عن الأجداد والآباء، خير من مصير مجهول".

ويوضح هشام، أن عدد المنتمين لمجموعات "عيساوة" التي تنشط ساحة "جامع الفنا" يقدرون بنحو 80 شخصاً، يتوزعون على 5 مجموعات، كل مجموعة تضم أكثر من 12 فرداً داخل كل مجموعة. وذكر أن المجموعات هنا، تنظمت أخيراً في جمعية اختاروا لها اسم "فلكلور عيساوة"، لتنظيم نشاطهم.

وعن الدخل اليومي لقاء الفرجة في الساحة، يؤكد هشام ومن معه من أفراد المجموعة، أن لكل يوم رزقه، في أيام ذروة النشاط السياحي يكون دخل اليوم وفيراً، خاصة في فصل الصيف.

ضجيج هنا وهناك، ما إن تدخل محيط إحدى حلقات الفنون بالساحة، حتى تنعزل عن ما يدور حولك، رغم صخب الأصوات الصادرة من كل حلقة.

مجموعات تراقص وتعزف للحيوانات السامة، أخرى تقدم عروضاً فكاهية، وبعض الأفراد يتفننون في سرد الحكايات لجمهورهم، بينما اختار البعض الآخر ترديد أغاني مجموعات مغربية تراثية معروفة، خاصة مجموعات "ناس الغيوان" و"المشاهب" و"جيل جيلالة" بالإضافة إلى مقطوعات مجموعة "الرصاد" المحلية.

في الجهة المقابلة عند طرف مدخل الساحة من محج "الأمير مولاي رشيد"، شباب اختاروا جلب مجموعة من القرود، بحفاظات أطفال حول خصرهم، يقلدون البشر في جميع حركاتهم وسكناتهم.

واحد من الشباب، ملاك القرود، واسمه عادل (26 عاماً)، يؤكد أن هذه الحيوانات هي مصدر رزقهم، ومعيل عائلاتهم الوحيد، حيث يطلبون لقاء ملاعبتها أو أخذ صورة معها مقابلاً لا يتجاوز ما بين 5 و10 دراهم (حوالي ما بين 0.5 و1 دولار).

ويرى عادل في دخلهم اليومي، مجرد ضربة حظ، حيث يبدأ نشاطهم قبيل ظهيرة كل يوم، حين يقبل السياح الأجناب بكثرة على النقطة و يتجمعون فيها. ويعتبر عادل أن المقابل الذي يدفعه السياح الأجناب أوفر وأعلى قيمة، خاصة إذا ما اختاروا التقاط أكثر من صورة مع قرودهم.

مجموعة أخرى موسيقية اختار أجداد أعضائها الهجرة إلى مراكش لاحتراف فن "الحلقة". محمد أحد أفراد المجموعة، يؤكد للموقع أن الانتقال اليومي للأسلاف من مسقط الرأس إلى المدينة الحمراء، تحول إلى مقام دائم وشبه دائم للبعض، حيث يكترون منازل داخل الأحياء الشعبية للمدينة، كي تكون أقرب لفضاء كسب قوت يومهم.

ويضيف محمد، أن أحسن فترة للنشاط السياحي في المدينة، هي الأيام الأخيرة من شهر دجنبر، والأولى من شهر يناير، كل سنة، بالإضافة إلى أشهر فصل الصيف. ويؤكد محمد أن المدخول اليومي لا يقاس بقيمة المبلغ المحصل، بل بما يحصل عليه كل فرد في المجموعة، كيف ما كانت مهمته في تنشيط الحلقة، حيث يحصل الجميع على حصتهم اليومية بالتساوي.

هكذا هي ساحة "جامع الفنا"، مجموعات وأفراد يقدمون الفرجة لقاء دخل غير قار، زادهم إرث قادم عبر التاريخ من الأجداد والآباء، لكن الساحة التي تنهل شهرتها من عرق جبينهم، وصرخات حناجرهم، ومخاطر ملاعبتهم للحيوانات السامة، لا تمنحهم بالمقابل، وحسب شهاداتهم، نفس المقابل.

وعن إمكانية استمرار ظاهرة الهجرة الفنية والثقافية للمدينة، يقول الأستاذ الباحث في العلم الاجتماع زكرياء أكديد، إن الظاهرة لا يمكن أن تتوقف مع حضور عامل الحاجة والإبداع في المناطق النائية المحيطة بالمدينة، كذا البعيدة عنها. ويوضح أن ما يحتاجه أي وافد جديد على ساحة "جامع الفنا"، هو ابراز مواهبه، ثم البحث عن الاعتراف وشرعية الحصول على مكان بين باقي المجموعات، بعد أن أصبح لهذه الأخيرة إطارات تمثلها.

ويرى الأستاذ أكديد، أن الحاجة الإنسانية بالساحة، ستنتج كل عقد جيلاً جديد ينشط فضاءاته، لكن ليس بنفس الطريقة. ويرجع ذلك، لتغير نمط تناقل الاستقطاب وتوريث الفنون التي تشتهر بها الساحة.

ويفسر الباحث في علم الاجتماع أسباب هذا التغيير في السلوك الإنساني والاجتماعي داخل الساحة، بالتحول الذي شهدته مدينة مراكش، ودينامية السياحة الجديدة فيها، حيث فرضت شهرتها العالمية، شروطاً وظروفاً مغايرة للبحث عن مورد رزق، وطرق الرفع منه، خاصة لدى السياح الأجانب الوافدين على عاصمة السياحة المغربية.

صناع الفرجة هنا لا يهتمون كثيراً بأرقام السياحة، سرد الموقع عليهم مجموعة منها، لكن تقييمهم مغاير تماماً. ولا يرون في تحليلات المختصين مصدر هموم لهم، هاجسهم الوحيد حسب خلاصة هشام الشريف العيساوي، هو الرقي بمنظر وجمالية الساحة، وتنظيم شروط الفرجة داخلها، لأن في ذلك منفعة لهم، ودعم لتوفير مصدر رزق أوفر، لعلهم، يقول هشام، يتركون لأبنائهم منازل يملكونها، عوض ما تركه لهم الأجداد والآباء، من جدران يسكنوها بالإيجار فقط.