Print this page
09
تشرين2/نوفمبر

تالوين ... حكاية حب امازيغية بنسيم الزعفران

تركنا مدينة تارودانت خلفنا ب90 كيلومتر تقريبا وبدأت جبال الأطلس الكبير تستقبلنا بتعال وهي تحتضن زهرة الجنوب مدينة '' تالوين ''، هذه المدينة التي تسابق شهرتها الزمن والتي تخطت حدود الوطن المعروفة بطابعها الفلاحي و الجبلي .. فعلى تلك الأرض المباركة تصاغ قصة حب بين الإنسان و الأرض... تلك الحكاية التي امتدت لأكثر من خمسة قرون ... والتي تبدع نساء المنطقة في فك تشابك خيوطها الحمراء النادرة ... إنها حكاية الذهب الأحمر أو الزعفران.

تالوين أو ''عيون المياه '' بالعربية التي يبلغ تعداد سكانها 5.844 نسمة تعد قطبا اقتصاديا مهما بجهة سوس ماسة. فعدا عن مميزاتها الطبيعية و ثرواتها اللامحدودة بين الزعفران، الاركان، العسل، والصبار ...نجد أن تالوين تتميز بثروتها البشرية. وتتضافر جهود متساكنيها لخدمة اقتصاد المنطقة كل بما ملكت أيمانهم. وتشكل النساء الدافع الأقوى، فيصح اطلاق لقب ملكات الزعفران و قلب تالوين النابض عليهن.

اليوم نحط رحالنا في ضيافة ملكات الذهب الاحمر ...

زراعة الذهب الأحمر ... بنون النسوة

استقبلتنا ربيعة بابتسامة خجولة مكللة بتعابير الترحيب والفرح بقدومنا وهي ترتدي العباءة الامازيغية و تتزين بحلي تازرزيت الفضية. وفي الطريق بدأت ربيعة تتحدث عن بلدتها ومدى جمالها وشموخ جبالها وهوائها النقي بلكنة امازيغية تتخللها ضحكات مكتنزة واعتذار مكرر كلما استصعب عليها ترجمة كلمة ما الى العربية. كانت عيناها العسليتين الدافئتين تغازلا الشاي الذي أصرت ان تصبه بيدها ونحن في ضيافتها.

ربيعة تبلغ من العمر 28 سنة، بعد حصولها على الاجازة في شعبة الجغرافيا بمدينة اكادير وجدت نفسها تتمايل على ارجوحة البطالة، فقررت ان تعود لمسقط رأسها مدينة تالوين وهي تجر أذيال الخيبة واجازة جغرافيا اعتبرتها فاطمة ،وهي إحدى المزارعات، " كارطونة " مكانها ان تعلق على الحائط لتؤرخ لفشلها ، فلم تنفعها جغرافيا الكتب الاكاديمية والتي تخلصت منها بعد ان انهت تعليمها بقدر ما كانت جغرافيا بلدتها الام السبب في ولادة ربيعة اليوم المرأة العصامية التي ازهر ربيعها.

على الساعة الرابعة والنصف من صباح اليوم التالي استيقظنا على نداء ربيعة كي ترافقنا الى حقول زرع الزعفران. وبعد الفطور الامازيغي الشهي بزيت الاركان و الاملو و " أسكيف " أي الحساء وهي من المنتوجات المعروفة بها المنطقة و الثقافة الامازيغية عموما انتقلنا مع فاطمة مشيا وبدأت جموع النساء تترائى لنا بملاحفهن وحيائهن الجميل و هن يلقين السلام على بعض بعد ان وصلنا و بقدر جمالها وروعة روحهن ..بدأ صدى صوتهن الرنان يصدح بين جبال الاطلس وهن يغنين بالامازيغة من كلمات أشعار الأسطورة الامازيغي الحاج بلعيد أثناء زرع نبتة الزعفران او سقيها ، النساء يعملن جاهدات وبكل حماس موسيقي وضحكات متناثرة هنا وهناك كحبات الندى الصباحي.

تقول ربيعة بعيون كلها تحدي وثقة ان " الزرع والسقي يتطلب مهارة خاصة، أثناء تنقيته من الطفيليات والشوائب، وجنيه وفرز شعراته يدويا وهذا ما يتطلب دقة و فنية خاصة إضافة إلى تجفيف اسديات الزهرة في الظل وتجميعها وتخزينها ثم تعليبها قبل وصولها إلى المستهلك. فللحصول على كيلوغرام واحد من الزعفران الحر لتالوين٬ ينبغي توفير حوالي 150 ألف وردة زعفران٬ وهي ذات لون أرجواني٬ تخرج منها ثلاث شعيرات ذات لون أحمر يميل إلى البرتقالي ".

وتضيف ربيعة التي تترأس تعاونية الزعفران ان "أعداد كبيرة من النساء تعملن في حقول الزعفران و يقمن بذلك العمل الشاق المتعب في الصباح الباكر ويتحملن برودة الجو القارسة في هذه المنطقة الوعرة التضاريس لضمان لقمة عيشهن وزيادة الدخل الفردي ويرجع لهن كل الفضل في كون المغرب من بين الدول المتصدرة لإنتاج هذا المعدن النفيس على الصعيد العالمي إلى جانب دول أخرى مثل إيران والهند واسبانيا وفضلا عن ذلك٬ فإن الزعفران المغربي يتميز بجودته الغذائية والطبية العالية٬ والتي تجد تفسيرها في كون المزارعين الذين يمارسون هذا النشاط لا يستعملون المخصبات الكيميائية٬ وهذا مكمن السر وراء تسميته ب ''الزعفران الحر''.

من أعماق الأرض ... بنين صرحا للنجاح

دور النساء الريادي هذا لم يتوقف عند الزرع ، فبعقلهن الاستثماري استطعن إنشاء تعاونيات نسائية قلبت الموازين للأفضل كما صرحت ربيعة مرزوق رئيسة التعاونية الفلاحية النسوية للزعفران : '' المرأة بتالوين لم تكن تستفيد بتاتا من هذا المنتوج لكن وبعد نضال مرير تمكنت من تحقيق طموحها وولوج سوق الزعفران كمنتج وأصبح لها دخل مادي قار".

وأكدت أن تعليم المرأة في المنطقة ساهم إلى حد كبير في تحقيق هذا الانتقال النوعي في حياتها، إلى جانب استفادتها من عدد من الدورات التكوينية التي تندرج ضمن برامج مخطط المغرب الأخضر، إضافة إلى مبادرات المندوبية الإقليمية لوزارة الفلاحة، من أجل النهوض بوضعها ''.

وتجدر الإشارة أن كل هذه المبادرات تبنتها العديد من الجهات المسؤولة وفي مقدمتها المصالح التابعة لوزارة الفلاحة ومجلس جهة سوس ماسة درعة وعيا منها بضرورة النهوض و تثمين هذا الذهب الأحمر الذي يعتبر قطبا زراعيا ليس فقط على المستوى الجهوي والوطني، بل أيضا الدولي، والذي كان إلى وقت قريب يمارس بطرق عشوائية، بدائية وغير مقننة ٬ و بالتالي العمل على إخراجه من ضيق الفلاحة المعاشية البسيطة ٬ إلى آفاق أوسع وأوعى بات ضرورة حتمية، وذلك من خلال تطوير تقنيات التعاطي لهذا النشاط الزراعي المهم وتأطير الفلاحين والنساء العاملات في القطاع وتجميعهن في تعاونيات قصد الرفع من مستواهن المعيشي٬ وبغية الوصول في نهاية المطاف إلى تثمين المنتوج٬ والرفع من قيمته ومنحه مؤشرا جغرافيا يخرج به من محيطه الجبلي المنعزل إلى رحابة العالمية نظرا لتميز الزعفران المغربي الحر عن باقي منافسيه.

تلك التعاونيات النسائية خرجت إلى النور بفضل المخطط الجهوي للمغرب الأخضر والذي يهدف لتقنين العملية الإنتاجية لهذا القطاع و الرفع من الدخل الفردي .. ومن أبرز المبادرات التي رأت النور في إطار هذه الإستراتيجية الطموحة٬ إحداث "دار الزعفران" في بلدية تالوين وهي ثمرة شراكة بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية٬ ومجلس جهة سوس ماسة درعة٬ والمجلس الإقليمي لتارودانت٬ ووزارة الفلاحة والصيد البحري٬ والشركات الخاصة.

وتضم "دار الزعفران" التي كلف إنجازها ما يقارب 6 ملايين درهم محلات لتعاونيات إنتاج وتسويق المنتوج٬ ومختبرا٬ وقاعات لفرز الزعفران٬ ومتحفا لوسائل الإنتاج...

لا يخفى على أحد أن كل هذه المبادرات و التعاونيات و دور الزعفران عادت على جهة سوس ماسة بالتنمية الاقتصادية لتصبح الجهة قطبا فلاحيا مهما وطنيا هذا إن لم نقل أنها أكثر جهة تزخر بالموارد الطبيعية و الفلاحية و كذا البشرية، فالنساء بالجهة و في قطاع الزعفران غيرن مفاهيم و تقسيم الجغرافيا التي تضعنا في خانة المغرب غير النافع وأكدن أن جهة سوس ماسة درعة متفوقة في مجال استثمار الموارد ولكن هذا يجعلنا نتساءل عن مدى استفادة تلك النساء من هذا التفوق و التميز ؟ فهل يا ترى استفادت فعلا نساء تالوين بعد إنشاء تعاونيات و دار الزعفران ؟ وهل اندمجن في السوق العالمي؟

ملكات الزعفران في وجه ...السماسرة

فجأة عم صمت مقابر ملغوم حديثنا وتقهقرت ابتسامة ربيعة وقالت بلغة كلها حسرة "على الرغم من كون المغرب رابع دولة عالميا في إنتاج الزعفران وتميز هذا الأخير و غلاء ثمنه، وكذا جهود المملكة و الجهات المسؤولة بهذا القطاع، إلا أن تسويق هذا المنتوج يعاني مجموعة من الاكراهات، منها مشاكل تتخبط فيها تلك التعاونيات و تحول دون بلوغ الهدف المنشود".

أثناء حديث ربيعة مرت احدى النساء من جانبنا فعادت الابتسامة لوجه ربيعة بسرعة البرق وقبل ان نسألها عن السبب أردفت قائلة " هذه المرأة مثلا تعيل اسرتها مما تكسبه من بيع الزعفران، أرملة و ام لثلاثة ابناء. ما يجعلني فخورة بهذه التعاونية هو تلك النساء اللائي يكافحن كل يوم في سبيل قوت يومهن وان اكون سببا في بسمة طفل، وان تكون النساء قادرات على العمل و تحمل المسؤولية داخل و خارج البيت، هذا ما يعطيني الامل في الغد المشرق بالرغم من كل المشاكل التي نتخبط بها ".

ثم غابت ابتسامة ربيعة مرة اخرى كما تغيب شمس ايلول الدافئة ، فبالرغم من أن المغرب مؤهل للتفوق في هذا المجال على منافسيه عالميا خصوصا بعد حضر الولايات المتحدة الأمريكية استيراد زعفران إيران التي تعد أكبر مصدر للذهب الأحمر، إلا أن عزلة الحقول ووعورة التضاريس تؤول دون الوصول للنتائج المرجوة وهذا ما يفسر اعتماد الأسواق التقليدية المتركزة في منطقة واحدة، مما يجعل التنافس صعب و يفتح المجال لسيطرة قانون السماسرة على حساب مصلحة المنتجين الذين يخضعون رغما عنهم لهذا النوع من التبعية و الاستغلال في سبيل بيع منتوجاتهن. فالمزارعين و نساء المنطقة لا يستفدون أبدا من غلاء أسعار هذه النبتة في السوق الدولي و بالتالي تبقى العائدات أدنى من المطلوب. وفي هذا الصدد تقول خديجة محمدي المزارعة والعضو في دار الزعفران '' الأراضي المزروعة بالزعفران في ازدياد مستمر يوما بعد يوم وبالرغم من ارتفاع جودة منتوجنا بقيت الأسعار لا تراوح مكانها وفي بعض الأحيان تنخفض، لأن الناس بالمنطقة لا يحسنون تسويق هذه المادة، ولكن سنعمل بجهد ولن نفقد الأمل في الإصلاح، فالزعفران مصدر دخلنا''.

كلهن أمل وبعيونهن بريق تحدي للحياة ... كل ما ينقصهن هو تضافر الجهود للنهوض بوضعهن وتسويق هذا المنتوج الحيوي الذي يعد من الكنوز المحلية باستراتيجية محكمة تضع بصمتها على الصعيد الدولي ...

بعد مغيب اليوم ودعتنا ربيعة وهي تصر ان نعود لزيارتها وكلها أمل في ان يصل صوتها و يبلغ صداه المسؤولين.