ولقد انطلقت الأبحاث والدّراسات الميدانيّة من الفكرة السّائدة والّتي تقول بأنّ التجار المهرّبين يطلبون الحماية والتنظيمات الإرهابيّة في حاجة إلى أموال لشراء الأسلحة والإنفاق على عناصرها واستقطاب أتباع جدد. لذا يكون التّقارب موضوعيّا. ولعلّ أفغانستان أوّل منتج للأفيون والحشيش في العالم خير دليل على ذلك. حيث تمّ في هذا البلد الارتباط بين أباطرة المخدرات وتنظيم القاعدة. في حين يوضّح إطار أمني سام مخـــتصّ في مكافـــحة المخـــدّرات أنّه لا علاقة في شمالي إفريقيا وخاصّة في تونس بين تجّــار المخــــدّرات والإرهــاب، على الرغـــــم مــن أنّ الإرهـــابي، كان في حالات معيّنة مستهلكها للمخدرات أو مهرّبا لها ومستهلك المخدّرات يمكن أن يصبح إرهابيّا. ومـهما يكن من أمـر، فإنّ اتّـساع رقـعة تجــارة المخـدّرات في المنطقة يدعـو إلى ملازمة اليقظة المستمرّة حتّى لا ترتبط هذه التجارة بالإرهاب.
واعتمد الباحثون القادمون من تونس والجزائر وليبيا على دراسة ميدانيّة وقع القيام بها في تونس للاطّلاع على عالم تجارة المخدّرات وامتداداته. فلا شكّ أنّ ازدياد حجم الضبطيات يعكس من جهة الجهود الكبيرة والمستمرّة التي تبذلها وحدات الأمن والحرس والديوانة في مجال مكافحة المخدّرات وارتفاع درجة اليــقظة لديها ويدلّ من جهة أخرى على اتساع رقعة تجارة المخدّرات وتنامي استهلاكها.
وتبرز الإحصائيّات في تونس أنّ عدد المورّطين في قضايا المخدّرات تضاعف أربع مرّات تقريبا في غضون العشرية 2006 - 2015.فقد ارتفع عددهم من 2430 شخصا في سنة 2006 إلى 9943 شخصا في سنة 2015، مع ارتفاع ملحوظ للعدد بداية من سنة 2012، أي سنة واحـدة بعد أحـداث 14 جـانفي 2011 الـــتي تــزامنـــت مع انفلات أمني وانحلال في السلوك الاجتماعي، حيث بلغ عدد المورّطين في تلك السنة 3823 شخصا، قبل أن يشهد تنامـيا في سنة 2014 (7181 شخصا) وفي سنة 2015 (7826شخصا.(
والملفت للنظر في الإحصائيات الارتفاع المطّرد لعدد التلاميذ المورّطــين في قضـــايا مخــدّرات بـــداية من سـنة 2011، وهو ما يدعو إلى طرح أكثر من سؤال حول أسباب هذه الظاهرة ودور الأسرة والمؤسسة التربويّة والمجتمع في الإحاطة بالنشء والشباب وحمايتهم من آفة المخدّرات.
يبيّن إطار سام، مختصّ في مكافحة المخدّرات، أنّ جريمة المخدّرات تختلف في نوعيتها عن بقيّة الجرائم. فجرائم القتل والسرقة والتحيّل والاعتداء بالعنـف، على سبـيـل المثال، تُقتـــرف في وقت ما وفي مكان ما وتنتهي بوقوعها، بيد أنّ جريــمة المخــدّرات لا نهاية لها لأنّها مستمرّة في المكان والزمان.. وضحيّتها المجتمع بأسره، لذلك لا يمكن القضاء نهائيا على هذه الجريمة ولا يجوز الحديث إلّا عن مكافحتها. وتتطلّب محاصرتها طول النفس والعمل يوميّا دون هوادة. كما تستوجب معرفة دقيقة بمكوّنات المخدّرات وبطرق صنعها. فلمّا يعثر في مكان مشبوه على مادّة الآسيتون (acétone) فذلك يمكن أن يكون مؤشّرا لصنع الكوكايين.
ويوضّح هذا الإطار السامي أنّ العمل الذي يقوم به جهاز مكافحة المخدّرات لا يكتسي بعدا أمنيّا فحسب، بل يكتسي كذلك بعدا إنسانيّا واجتماعيّا، لأنّ غايته في نهاية الأمر حماية أجيال وتحصين المجتمع من هذه الآفة. ويشير إلى أنّه لا يمكن مقارنة ما يتوفّر لأجهزة مكافحة المخدّرات في بلدان أخرى من إمكانات مادية وبشرية ضخمة بما هو متاح من إمكانات للجهاز التونسي، فقلّة إمكاناته تعوّض بالحرفية والصبر وتوظيف المعلومة في الميدان واكتشاف الجريمة بإعمال العقل، نظرا لأنّ عالم المـخدّرات عالم سـرّي لا يتسنّى الدخول إليه إلّا بصفة سريّة.
وتنقسم الخطّة الأمنيّة المتّبعة لمكافحة المخدّرات إلى عديد المراحل تبدأ بالمتابعة المستمرّة لأحوال سوق المخدّرات من ارتفاع أو انخفاض للأسعار. فالانخفاض دليل على وفرة العرض، وهو ما يدعو إلى البحث عن مصدر المخدّرات. كما تقتضي الخطّة الحرص على معرفة تحرّكات عناصر الشبكات وأماكن إخفاء المخدّرات ومسالك ترويجها. ويتطلّب الأمر كذلك التحرّك بسرعة لإيقاف المتورّطين في التّهريب قبل وصول البضاعة إلى المستهلكين.
جانب آخر من الخطّة الأمنيّة يقتضي البحث عن مخابئ المخدّرات، اعتبارا إلى أنّ المهرّبين والتجار المروّجين يبتدعون دائما حيلا جديدة ويعملون على تغيير طرق إخفاء البضاعة. فيجب بالتّالي توجيه ضربات موجعة إلى شبكات ترويج المخدّرات لشلّ حركتها وإبراز قدرات الإدارة الفرعية لمكافحة المخدّرات. ويتمّ ذلك أيضا بالاستفادة ممّا يدلي به تجّار المخدّرات الموقوفين من معلومات عند التحقيق معهم للكشف عن القضايا، وهو ما يتطلّب حرفية عالية ودراية واسعة بتقنيات البحث.
وكلّ التّحقيقات أبرزت أنّ مهرّبي المخدّرات في تونس ليسوا في علاقة بالإرهابيّين ولكنّ الأمر يختلف في الصّحراء فالمعروف عن الإرهابيّ المعروف مختار بلمختار اندماجه في تهريب المارلبورو ولعلّه عُرِف بالتّهريب قبل الإرهاب. لذا، فمجالات البحث قد تصل إلى نتائج مختلفة حسب خصوصيّات كلّ بلد.