في ظلّ هذه الظّروف، ليس من السّهل القيام بتحقيقات صحفيّة مع هؤلا الأفارقة الّذين تلهث وراءهم عديد المجموعات الّتي تتمعّش من شقائهم، سواء في الطّريق إلى ليبيا أو داخلها وكذلك لمّا يهمّون بمغادرتها.
لذلك، كان من الضّروري أن يستخدم مراسل أصوات الكثبان بمدينة سبها اللّيبيّة كثيرا من الكياسة لمحاورة الشّابّ الغاني ريموند، أصيل أحد الأحياء القصديريّة المحيطة بأكرا، عاصمة غانا، الّذي وصل إلى ليبيا منذ أسبوعين.
يقول رايموند لتفسير ظروف مجيئه : ' ليس لي ما أخسره في بلدي. أفراد عائلتي باعوا ما يمكن بيعه وسلّموني إيّاه للوصول إلى ليبيا. وسأقضي هنا بعض الوقت لجمع الألف يورو الضّروريّة للعبور إلى أوروبّا. أنا أتقن الدّهن وبعض اختصاصات البناء ممّا سيساعدني كثيرا هنا وفي أوروبّا فهذه الاختصاصات جدّ مطلوبة'.
رايموند يؤكّد أنّ الصّدفة وحدها هي الّتي أنقذته من الموت: ' كنّا 13 مهاجرا غير شرعي في جنوب النيجر وقادمين من غانا، في شاحنة صغيرة يتداول على قيادتها غانيّان من أكرا. في اليوم الثّاني للسّفر، أكل جميعنا من طعام مطبوخ بنبات صحراوي معروف. ولكن، في حين أصاب الجميع إسهال قويّ و مغص شديد ذهبا بحياتهم، العناية الإلاهيّة وحدها أنقذتني أنا ورفيق لي وأحد السّائقين'.
ويضيف رايموند : » لقد تواصل سفرنا خمسة أيّام وصلنا إثرها إلى الحدود اللّيبيّة. لم نتعرّض لأي مساءلة. المجموعات المسلّحة هي الّتي تقوم بمراقبة الحدود الجنوبية وبدل أن يمنعوا مرور هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين فهم يتاجرون في هذا المجال. فيتركونهم يمرون مقابل دفع الأموال .عموما، هذه المناطق ليست تحت سيطرة الجيش أو أيّ هيكل آخر تابع لأيّ من الحكومات. فمن الواضح أنّه لا توجد خطّة لمحاربة الهجرة غير الشرعية «
رايموند يدرك خطورة الرّحلة ولكنّه يقول : ' أمثالي ممّن يقدمون على مغامرة الهجرة غير الشرعية مدركون جيدا للمخاطر التي قد تتربص بهم في عرض البحر، والمسألة ليست مغامرة غير مضمونة العواقب بقدر ما هو استسلام للأمر الواقع. ليست لنا حلول أخرى فإما الموت السريع غرقا في البحر، وإما الموت البطيء في بلداننا بسبب الفقر أو الحرب. فهذ الرّحلة توفّر لنا خيط أمل رفيع في احتمال العبور إلى الضفة الأخرى وذلك رغما عن كل احتمالات الموت الواردة '.
ويوضّح رايموند كيف أنّ طول المسافات المقطوعة واتّباع الطّرق الجانبيّة يجعلان الأمور أكثر خطورة فضحايا المسارات الصّحراويّة كثيرون، سواء الّذين ماتوا عطشا أو بفعل الحشرات السّامّة أو كذلك إثر شجارات بين المهاجرين فيما بينهم أو بين المهاجرين والمهرّبين.
أمّا فيما يتعلّق بكيفيّة المرور عبر الحدود، فيوضّح الشّابّ الغاني أنّ الأمر يتمّ عبر شاحنات، كبيرة كانت أم صغيرة، يُحْشَرُ فيها مئات المهاجرين غير الشرعيين وتسافر كل واحدة منها على حدة. الشّاحنة معبّأة ظاهريّا بالتّبن أو بمنتوج فلاحي آخر ولكنها في الحقيقة كانت تنقل مهاجرين غير شرعيّين مكدسين في الخلف ومعهم نساء وأطفال. هذه العربات، ليبية كانت أم أجنبيّة، تدفع إتاوات للعبور. هؤلاء الأشخاص مستعدون لجميع التضحيات للهجرة نحو أوروبّا نظرا لأنّهم يمثّلون أمل عائلاتهم الّتي باعت كلّ شيء لتأمين رحلتهم.
مانويل شابّ اريتري الأصل في الثّلاثين من عمره، يعمل مع المنظّمة الدّوليّة للهجرة على تأطير المهاجرين، التقته أصوات الكثبان في شوارع سبها. تحدّث عن ظروف مجيئ المهاجرين إلى ليبيا ووضعهم هناك. يقول مانويل: "الأضواء لا تُسَلَّطُ إلاّ على ضحايا البحر في حين أنّ الصّحراء والبراري تقتل أكثر من ربع المهاجرين الّذين يشدّون الرّحال إلى الشّمال بحثا عن الأمل. رُبُع آخر أو أكثر مُسْتعْبَدٌ من قبل العصابات أو قابع في السّجون السرّيّة دون أن تُسلَّطَ عليه الأضواء... لِتَعْلموا أنّ البحر يُشفِقُ على مرتاديه ومخاطره أرحمُ من الصّحراء. و لكن، لا يصِلُ البحر إلاّ النّصف النّاجي من الصّحراء و الإحصائيّات تجمع أنّ العبور لا يقتل إلاّ أقلّ من 05 % من العابرين. هم ضحايا بالتّأكيدٌ ولكنّ البحر أرحم من الصّحراء وعصابات التّهريب".
تدهور الوضع الأمني في ليبيا وضعف الحكومة المركزيّة منذ سقوط القذافي وإلى اليوم، فتح الباب واسعا أمام الهجرة غير الشّرعيّة والقادمة منها من الجنوب خاصّة. حكايات عديدة يرويها المارّون من الجنوب الشّرقي اللّيبي عبر الحدود مع السّودان والتّشاد أو الجنوب الغربي والبوّابات مع النّيجر والجزائر ...
آلاف من الكيلومترات في قلب الصّحراء كانت صعبة المراقبة زمن القذاّفي فما بالك اليوم ؟