إذن، بقيت حكومة السرّاج دون قوّة عسكريّة نظاميّة تعوّل عليها لاستتباب الأمن وحتّى فكرة تكوين حرس وطني أو تدريب قوّات ليبيّة في تونس فقد بقيت حبرا على ورق وحافظت المجموعات المسلّحة على سلطتها مثلما تبرزه الاشتباكات الّتي تحدث بين الفينة والأخرى والّتي قد ترتفع حدّتها إن اختلّ التّوازن الهشّ الّذي يحكم طرابلس اليوم.
وقد ارتفعت حدّة المناوشات خلال الأسبوع الثّالث من شهر أوت إلى درجة أرعبت متساكني طرابلس فقد شهدت العاصمة الليبية استنفارا عسكريا وانتشارا للأسلحة الثقيلة والمتوسطة في مداخل عدة مناطق ومخارجها. ونشر رواد صفحات التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الإخبارية المحلية صورا تبين انتشار عناصر مسلّحة إلى جانب مدرعات وسيارات مصفّحة. ففي منطقة أبوسليم أظهرت الصور تمركز دبابة بالقرب من الإشارة الضوئية حيث مقر كتيبة البركي.
وفي حين يلتزم المجلس الرئاسي الصمت إزاء ما يحدث من تطورات أمنية خطيرة في العاصمة طرابلس، يتساءل الليبيون عما إذا كانت هذه التطورات تحضيرآ لحرب مرتقبة أم مجرّد تجاذبات وصراع مواقع بين القوى الّتي تتقاسم النّفوذ. ويُرجع المراقبون ما آلت إليه الأوضاع الأمنية في العاصمة طرابلس إلى تساهل المجلس الرئاسي ولجنة الترتيبات الأمنية المنبثقة عنه مع مختلف الجماعات المسلّحة وعدم تطبيق ما جاء في بنود الاتفاق السياسي بخصوصها.
وللتّذكير فإنّ مسؤولين في حكومة الوفاق كثيرا ما خرجوا ليؤكدوا على أهمية إدماج هذه الميليشيات صلب مؤسستي الجيش والشرطة، معتبرين إياها جزأ من الحل لا المشكل في ليبيا. وذهب الكثير من المؤيدين للمجلس الرئاسي حينها إلى وصف هذه الخطوة بالإيجابية باعتبار أنها ستقلم أظافر هذه الجماعات وتحد من نفوذها. لكن بعد مرور أكثر من 4 أشهر على دخول المجلس الرئاسي للعاصمة طرابلس، يبدو أن السراج لم يستطع التحكم في هذه الميليشيات. فمنذ وصول الحكومة إلى العاصمة في 30 مارس الماضي وحالة من الغموض تسود أداء اللجنة الأمنيّة التي فوضها السرّاج لإحلال الأمن في المدينة. وإلى حد الآن لا يعرف بالضّط ممّن تتكوّن فعليّا ومن هي الجماعات المؤيدة للمجلس الرئاسي والأخرى الرافضة له أو الّتي وضعت شروطا للقبول بسلطته ؟
وللتّذكير أيضا فإنّ اشتباكات وحرب نفوذ بين الميليشيات المؤيدة للسرّاج من جهة والرافضة له من جهة أخرى كانت سبقت دخول الفريق الحكومي العاصمة طرابلس. لكن بمجرد دخوله ساد العاصمة نوع من الهدوء في حين لم يعرف حينها موقف الجماعات الرافضة له وما إذا كانت قد غيرت موقفها إيجابا نحوه. ولكنّ الواقع أثبت تدريجيّا أن تلك الميليشيات ظلت على موقفها لكنها بقيت تتربص الوقت المناسب للهجوم على نظيرتها المؤيدة للسراج للانقلاب على السلطة. فعادت الاشتباكات المسلحة لتندلع بين ميليشيات موالية للمجلس الرئاسي وأخرى رافضة له في إطار صراع النفوذ الدائرة رحاه للسيطرة على العاصمة منذ أشهر. وسيطرت ما تعرف بكتيبة “ثوار طرابلس” خلال الفترة الماضية على العديد من المقرات التي كانت تتمركز داخلها ميليشيات محسوبة على التيار الإسلامي وتحديدا الجماعة الليبية المقاتلة والإخوان المسلمون.
ولعلّ في تداول رواد صفحات التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية لملصقات تدين مفتي الديار المعزول الصادق الغرياني وجماعة الإخوان المسلمين، دليل على التّصعيد ضدّ رموز الإسلام السّياسي خاصّة وأنّ المراقبين يدركون أنّ ثلاث أكبر ميليشيات في طرابلس تؤيد المجلس الرئاسي. ويتزعم هذه الميليشيات كل من غنيوة الككلي صاحب ميليشيا “أبوسليم” وهيثم التاجوري الذي يقود ميليشيا “ثوار طرابلس” وعبدالرؤوف كارة القائد العام لميليشيا “الردع”. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الميليشيات كانت منضوية مع جماعة الإخوان المسلمين والجماعة المقاتلة تحت تحالف ما يعرف بـ”فجر ليبيا” الذي تشكل لطرد القوات الموالية للحكومة المؤقتة التي تتخذ من الشرق مقرا لها وكان الجميع يدين بالولاء العقائدي للمفتي الصّادق الغرياني المتنازع حول سلطته.
وبدأت العلاقة بين عبدالرؤوف كارة وبين الجماعة الليبية المقاتلة التي تتبنى فكر القاعدة، تسوء بعد أن تحولت ميليشيا “الردع” من قوة لمجابهة الظواهر السلبية في المدينة إلى قوة تواجه تنظيم داعش، حيث قتلت ميليشيا الردع آمر ميليشيا “التوحيد” مراد القماطي في ديسمبر الماضي، متهمة إياه بالانتماء إلى التنظيم الإرهابي. وزادت العلاقة توترا بين الطرفين بعد أن أقدم كارة على اعتقال منتسبين لما يعرف بـ”سرايا الدفاع عن بنغازي” المدعومين من قبل المفتي المعزول الصادق الغرياني، الذين قادوا في يوليو الماضي حربا على قوات الجيش الليبي شرق البلاد انطلاقا من مدينة الجفرة جنوبا. وفي آخر ظهور مرئي له قبل أيام، شن المسؤول العسكري لمجلس شورى ثوار بنغازي وسام بن حميد، هجوما لاذعا على كارة، بسبب توقيف منتمين للمجلس بالعاصمة، واصفا إياه بـ”ميار طرابلس” في إشارة إلى القيادي السلفي أشرف الميار الذي يقاتل في صفوف الجيش بمدينة بنغازي.
وفي ظل هذه التّجاذبات الأمنية الخطيرة، ذهب رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج برفقة عدد من أعضاء المجلس الرئاسي إلى العاصمة التونسية لمقابلة محمد إشعيب نائب رئيس مجلس النواب ورئيس لجنة الحوار الممثلة للبرلمان لمحاولة حلحلة الأوضاع حول إشكاليّة منح الثّقة للحكومة من قبل البرلمان. ولكنّ الأرجح، حسب الملاحظين والمحلّلين، هو أنّ اتّفاق السخيرات تجب مراجعته حسب التّحوّلات الّتي عرفها الميدان في غرب وشرق ليبيا.
ولكن تبقى مسألة مصير المجموعات المسلّحة حجر عثرة أمام كلّ اتّفاق سياسي فلا يمكن لسلطة سياسيّة أن تحكم دون العنف القانون للدّولة المختلف عن عنف المجموعات المسلّحة.