لا يخفى على أحد أنّ حكومة الوفاق تحتاج إلى قوات عسكرية وأمنية كبيرة لتأمينها وتنفيذ قراراتها على الأرض، ولكنّها لن تجد على الأرض سوى قوة الردع الخاصة بقيادة عبد الرؤوف كارة، بالإضافة إلى بعض مليشيات مصراتة التي أيدت الاتفاق السياسي، مثل كتيبة الحلبوص والمحجوب وكتائب المناطق القريبة من طرابلس. ووارد جدّا أن يكون مقر حكومة الوفاق في مكان مغلق يمكن تأمينه بسهولة، مثل قاعدة معيتيقة أو قرية النخيل بجنزور، وسيبدأ على الفور إعادة تأهيل ودمج المليشيات واستدعاء العسكريين السابقين، لتكوين جيش محترف وقوات أمنية محترفة، سيتولى تدريبها في الجنوب التّونسي مدربون إيطاليون وبريطانيون وفرنسيون وألمان، وقد تشهد طرابلس مناوشات واشتباكات مسلحة بين القوات الموالية لحكومة الوفاق والرافضة لها، مثل الجماعة الإسلامية المقاتلة وبعض كتائب مصراتة الموالية لحكومة الإنقاذ، وعندها سيتدخل حلف الناتو أو بعض بلدانه لسحق هذه المليشيات من الجو. فقد أكّد النّاتو مرارا أنّه سيأتمر لسلطة رئيس الحكومة المعيّن، حال تنصيبه.
من الطّبيعي أن تبدأ حكومة الوفاق بمصادرة السلاح الثقيل والمتوسط من طرابلس، ثمّ تعمم التجربة على معظم المنطقة الغربية، ممّا سيدفع الرافضين لمسار السخيرات في مصراته إلى مراجعة موقفهم، عندما يجدون أنفسهم أقلية بينما قد يضطرّ للهجرة كلّ من خليفة الغويل وأعضاء حكومته وكذلك نوري بوسهمين ومن لفّ لفّه. الزّعيم التّاريخي للجماعة الإسلاميّة المقاتلة، عبد الحكيم بلحاج، لم يحسم أمره بعد، كما أن الزنتان ستعيد النظر في موقفها الرافض لحكومة الوفاق، وتطلب من ممثلها عمر الأسود الالتحاق بركب السرّاج، في حين سيتولى المصرف المركزي تجميد حسابات الرافضين لحكومة الوفاق في كل أنحاء ليبيا، بالإضافة إلى العقوبات الدولية التي ستشمل هذه المرة عبد الله الثني. هذا سيناريو وارد أن يرافق دخول الحكومة لطرابلس.
بمقاطعة المصرف المركزي لها والمؤسسة الوطنية للنفط لها، ستعاني الحكومة المؤقتة من أزمة مالية حادة بما أنّ المصرف المركزي سيتعامل فقط مع المجالس البلدية المنضوية تحت المظلّة الأمميّة، وستنعكس الأزمة المالية على الجيش الذي يقوده حفتر، خاصة إذا توقف الدعم المالي والعسكري الآتي من الإمارات بضغط دولي، وسيلعب آمر حرس المنشآت النفطية بالمنطقة الوسطى إبراهيم الجضران دورا مهما، بما أنّه سيؤيد حكومة الوفاق لأنّه يدرك من أين تؤكل الكتف، خاصة إذا اتفق مع كتائب مصراته على تحرير سرت من تنظيم داعش بدعم دولي كبير.
أمّا بالنّسبة لحفتر، فمن غير المرجح أن ينتقل لمزاولة عمله كقائد عام للجيش من طرابلس، ولو أنّ السرّاج لم ولن يطلب منه ذلك فسيبقى حفتر في حصنه الحصين بالمرج، وقد تضطر حكومة الوفاق إلى تفعيل المادة الثامنة من الاتفاق السياسي بعد التشاور مع لجنة الحوار، وستنقل كل صلاحيات المناصب السيادية العليا المدنية والعسكرية والأمنية إليها، وستعين رئيسا جديدا لهيئة الأركان باعتباره أعلى منصب في الجيش الليبي، وهو ما سيحدث مع بقية المناصب السيادية العليا، وستستغرق مرحلة المصالحة الوطنية بعض الوقت لإعادة توحيد البلاد بعيدا عن كل الشخصيات الجدلية، وسيقبل الليبيون بسهولة المصالحة مع مؤيدي القذافي، بعد أن جربوا التيارات الأخرى الأكثر تطرفا، في حين سيتولى القضاء الحكم في جميع القضايا التي لا تزال معلقة، سواء كانت في عهد القذافي أو بعد سقوط نظامه، وسيفرج عن مسؤولي النظام السابق الذين لم يثبت تورطهم في جرائم قتل أو اغتصاب أو فساد مالي. كلّ هذه فصول من الوارد أن تحدث في ليبيا اليوم.
ومثل هذا السّيناريو ليس غريبا على ليبيا. فكلما أنهارت الدولة تعود مرة أخرى من طرابلس لتبسط نفوذها على كل التراب الليبي، ولم يحدث أن بدأت الدولة في أي مكان آخر لتصل أخيرا إلى طرابلس، وأكبر دليل على ذلك هو الحكومة المؤقتة ومجلس النواب، فطوال وجودهما في الشرق لم تستطع بسط نفوذها لا في الغرب ولا في الجنوب، بل تحولت مع مرور الوقت إلى مجرد أسيرة بيد الجهويين والقبليين. فتمكّن السّلطة من الحكم مرّ دوما من طرابلس وإن واجه مخاضا عسيرا.
الإشكاليّات لن تكون أمنيّة وعسكريّة فقط. ستمر البلاد بأزمة مالية حادة لبعض الوقت قبل أن تستأنف تصدير النفط مثلما كان عليه قبل 2011، ويرفع مجلس الأمن الحظر على الأموال الليبية بالخارج، كما سيرفع حظر تسليح الجيش الليبي مما يمكنه من السيطرة تدريجيا على كل التراب الليبي، وهو ما يعني أن البلاد ستستمر منقسمة بعض الوقت، إلى أن تتمكن حكومة الوفاق من إجراء انتخابات تشريعية جديدة، تمكن مجلس النواب الجديد من العمل من بنغازي، وعندها سينتقل المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط إلى بنغازي أيضا. وفي الأثناء، سيتمّ القضاء على الإرهابيّين وإعادة إدماج المضلَّلين بينهم في المجتمع، وبالتّحديد من لم يقوموا بجرائم في حقّ غيرهم لأنّ ليبيا تتّسع لجميع أبنائها الّذين يتعايشون مع الآخر رغم اختلافهم معه.
سيناريو يبدو بسيطا ولكنّ ألاعيب السّياسة تجعله صعب المنال.