يروي"محمد طويني"( 58 سنة) قصته لـأصوات الكثبان: " كنا نسكن بالقرب من البحر وننتظر الصباح لنتجه اليه، بالرغم من الفقر الذي منعنا من امتلاك المعدات المناسبة للغطس والصيد، ولكنني أتذكر جيداً كيف كنا نغطس بعيون مفتوحة رغم المشقة الكبيرة التي كنا نكابدها وذك رغبة منّا في اكتشاف هذا العالم المجهول".
يتابع محمد "قصتي مع عالم الصيد في البحر بدأت مع (الفيزقا) بندقية البحر ومركب صغير رافقاني طويلا في رحلة استمرت لسنوات "
يقول"شعبان التائب" باحث ومدون تاريخي "ان علاقة (ات ويلول) امازيغ واهل زوارة الذين تعايشوا منذ القدم مع البحر هي علاقة عمل تطورت الى حب بلغة تواصل لايعرفها الا هم ، هو كان ولايزال يمثل لهم مصدراً من مصادر الرزق الذي توارثوها كابرا عن كابر لقد ظل مصدر رزق وخير لا ينقطع " ،
و يضيف "يتميز خط ساحل زوارة الممتد من مليتة شرقاً حتى راس جدير عند الحدود الليبية التونسية غرباً والبالغ طوله نحو70كم باستقامته وقلة تعرجه، ومن المظاهر التي تضمها المنطقة هي جزيرة فروة قبالة منطقة ابي كماش"
تقول دكتورة الجغرافيا "نادية ابوالشواشي" ان هذا التميز جعله من افضل واشهر مناطق صيد الأسماك في الساحل الليبي.
(اوراغ ،ايفرغس ،ادرغال ايمخطط ،ازدوز، الرزام، اشباظ، يازيض،امناني، القاروص، ايمغراس، بوقراض)وغيرها الكثير من الأسماء المحلية لأنواع السمك في المنطقة يذكرها "كامل دباب"( 40عام) اشهر صيادي المنطقة ويُضيف "هذه الأسماء محلية ومُتعارف عليها تختلف من منطقة لمنطقة وترتبط بنوع وشكل الأسماك وهي أسماء متوارثة من اللغة الامازيغية ومستخدمة في المنطقة"
يُضيف محمد الطويني "من الأنواع المميزة في المنطقة هي(السردينة والرخويات بالأخص القرنيط(ابلبول) وقد حاول الصيادون في المنطقة الشرقية العمل على صيده ولكن لم ينجحوا لأن صيده يعتمد على إناء من فُخار(قابوش نتغلسا) نظراً لتواجد الصخور في حين أن ساحلنا مُميز وخاصة بُحيرة القصير التي لايوجد بها تيارات قوية"
"كذلك السيبيا(تيشوباي) وهي نوع اخر من الرخويات تشتهر بلذة مذاقها ، وموسمها يبدأ من فبراير حتى ابريل ويكثر تواجدها في منطقة فروة بالخصوص لما تمتاز به المنطقة من دفء غالب على مياهها ".
ويستطرد شعبان التائب "البحر بالنسبة لأهل زوارة ليس مياها وامواجا تتلاطم واسماك فحسب كما يراها غيرهم، بل هو عندهم تجسيد لقصة الحياة واستمرارها وعنوان لبقائها ومصدر خيراتها، فالخيرات هي سر بقاء الانسان ولا خيرات دون بحر "
هذه الحكاية جعلت اهل زوارة يتفننون في طُرق الصيد لجلب الخيرات من البحر، وعن طرائق الصيد في المنطقة يذكر الطويني "اللمبارات،الجرف ،الشبك (ايراضجن)، اصنار" كما استعمل الصيادون منذ القدم (البارود الجيلاتينة) وهي طريقة تستخدم الى الان خاصة في ظل غياب الدولة والفوضى الأمنية التي تشهدها ليبيا منذ2011"
ويُضيف كامل عن طريقة الشبك (إيراضجن) "هذا النوع يُناسب المنطقة الغربية في ليبيا بالأخص زوارة، ومنذ القدم كان يعمل به اباؤنا في صيد سمك التن، تم تطورت بالغزل الجديد الذي يُسمى غزل الحرير الملقب (بالإسرائيلي)وهو متداول لأنه متين مقارنة بالشبك القديم الذي كان يُصنع بالقُماش وفتحاته واسعة"
"كلما تعمقنا في دراسة العلاقة الوطيدة التي بين اهل زوارة والبحر، كلما اكتشفنا عُمقها وقوة متانتها، واكتشفنا ايضاً انها امتداد لعبادات قديمة لها علاقة بولادة ترتونيس ابن اله البحر بوسيدون على جزيرة صغيرة بقرب الساحل الغربي الليبي كما تُخبرنا الأسطورة الإغريقية" يقول التائب.
ويؤكد عمق هذه العلاقة الطويني بقوله "نحن اهل زوارة اعتقد ان في جيناتنا شيء مرتبط بالبحر وعشقه وهو امر متوارث، فلا تجد بين أهلنا من لا يعشق البحر، وان وجد يعتبر حالة شاذة وغريبة، فالبحر يعيش فينا ونحن نعيش فيه"
"هذه العلاقة الوطيدة لاتزال واضحة في بعض العادات الصامدة حتى بعد دخول الإسلام، بعد تحولها من عبادات الى عادات لا تتعارض في اغلبها مع تعالميه" حسب قول التائب ويضيف "من هذه العادات عادة(اوسو) وما يصحبها من طقوس متنوعه، وعادة السباحة في سبع موجات بعد اجتيازها، ورش البيوت وخصوصاً في المناسبات بمياه البحر تجنبا للسحر، وذهاب الارملة الى البحر فجر يوم انتهاء عُدتها ورمي لباس العُدة في البحر والاغتسال فيه، واخذ قليل من ماء وعُشب البحر(تالقا) ورميها على قبر زوجها بعد رشه، وغيرها من العادات"
يروي كامل ما كان يسمعه عن ابيه عن البحر والخيرات ويقول "في القدم كانت المهنة أبسط بكثير والامكانيات محدودة، فقديماً كميات الأسماك متوفرة بكميات كبيرة والسحب كان محدودا ،فكان مُقتصرا على ان يحصد الصياد دخله وما يكفيه لإطعام اسرته، لان الحياة كانت بسيطة، اما الان فالوضع مُختلف الإمكانيات مُتوفرة وكمية السحب أصبحت كبيرة وبشكل قد يُهدد بعض أنواع الثروة السمكية، بالإضافة للمشاكل الأخرى التي تهددها"
وعن هذه المشاكل التي تُعاني منها المنطقة تقول د.ابوالشواشي"التلوث الكيميائي نتيجة إقامة مشاريع صناعية أدى إلى التلوث البحري ومن اهم هذه المشاريع مجمع مليتة ومجمع ابي كماش الصناعي، حيث اثبتت الدراسات التي اجريت في منطقة أبي كماش الواقعة ضمن محيط مجمع ابي كماش تلوث التربة والمياه الجوفية والتلوث البحري نتيجة ارتفاع نسبة بعض المعادن الثقيلة ولاسيما الزئبق"
ويوُضح الطويني "توقف مصنع ابي كماش منذ سنوات يعتبر احد الحلول لهذا التلوث والنسبة أصبحت اقل بكثير ،واغلب الأسماك التي تأتي الى حوض المتوسط هي اسماك مهاجرة من المحيط ولكن أصبحت تقل لعدة أسباب وهذه مشكلة للمتوسط بأكمله ،التلوث لايمكننا حصره في سبب معين ،فإن حدث في مضيق جبل طارق مثلاً يؤثر بشكل مباشر على منطقتنا، بالإضافة الى مصفاة الزاوية ،مصانع مصراتة و تلوث المشتقات النفطية الخطير في المنطقة كلها مصادر تلوث "
يؤكد كامل هذه الخُطورة التي يواجهها كصياد ويقول "لطالما تصادفنا مساحات كبيرة منها تطفو على السطح ترمى بها في عرض البحر دون رقيب، وتُشكل طبقة سميكة وليست بالبسيطة وهذه من اهم ما يُهدد الثروة السمكية التي تنتقل اليها عبر القشريات التي تعيش قريبة لسطح المياه، وتتغدى عليها الاسماك الاكبر بالتالي تتناقل عبر الغداء، على سبيل المثال سمك البوري اصبح شبه مُنعدم فالمنطقة ولايكاد يخلو من طعم ورائحة هذه المشتقات"
"ايمركان ،تيبودا ،المنطقة الممتدة بين ام علي والمربعة" جمال وسحر هذه المناطق وزُخرها بأجود أنواع الأسماك تجعل من يغطس فيها لمرة يعشقها ويهواها، ويتحدى كل هذه المخاطر التي تُهدد المنطقة ويستمر في مهنته رغم كل الصعاب التي تواجهه كصياد" يقول الطويني.
ويُوضح اهم المشاكل بقوله "الجرف يُعتبر مشكلة كبيرة، وخاصة مما يُهددنا من اقتحام جرافات الدول المجاورة سواء تونس ومصر أو من جنوب أوروبا وخاصة السنوات الأخيرة في ظل غياب الدولة واشتكينا المسؤولين ولكن لا جواب منهم"
يؤكد كامل تقصير المسؤولين ويُضيف "بالنسبة للإجراءات الإدارية والتنظيمية شبه معدومة ، فالصيادين المحليين معدودين لايتجاوز عددهم العشرين ولاتوجد لنا حتى نقابة، ولاضمانات ولا أي دعم، والتجار من يقبلون بشراء بضاعتنا معدودين وهم من يتحكمون في أسعار السوق ، وعادة يتم تصديرها الى تونس فقط، وخاصة مع الظروف الأمنية السائدة الأن"
""يؤكد المهندس "رمضان الادريسي"مدير مكتب الثروة البحرية زوارة أهمية هذه الإجراءات وتفعيلها ويقول لـMDI "خاطبنا المسؤولين من خلال تقارير ومراسلات رسمية، ولأكثر من مرة ولكن للأسف ظروف البلاد الحالية عائقاً لتفعيل أي إجراءات، وطالبنا بتفعيل الجهات الامنية لمواجهة هذه التجاوزات، اما بخصوص النقابات فاللوم على الصيادين انفسهم لتفعيلها بل نأمل ان تكون جهة مراقبة ومتابعة لعملنا وليس العكس، وبالنسبة للتلوث فنحن نهتم لمعرفة وجوده وحجمه في المنطقة لذلك اجرينا مؤخراً تحاليل جديدة على مستوى دولي باعتبار ان التحاليل السابقة كانت نتائج اولية ، ونحمد الله ان النتائج كانت مطمئنة وغير خطيرة كما كنا نخشى ونخاف"
عن التصدير يوضح الطويني "لايمكننا الاعتماد على السوق المحلية لأننا بالعموم لانستهلكها بقدر كبير مقارنة بتونس التي تعتمد عليها في السياحة والمطاعم، وهذا لا يمنع ان الصيد يُعتبر مصدر دخل رئيسي ومهم، فهناك دول تعيش على البحر نحن في تاريخنا القديم لم نجوع ابداً ،رغم كل الازمات لأننا نعتمد على البحر، واستغرب ان يجوع انسان وامامه هذا البحر ،وانجح الحضارات هي التي أقيمت على البحر واعتمدت عليه، والبحر كان السند لنا فالسلم والحرب فمن نقل جرحانا وسلاحنا ودوائنا وحتى غدائنا في ثورة فبراير غير بحرنا"