نزوح أكثر من 21 ألف عائلة عن هذه المناطق و انتشار كبير للجثث المتحللة و القمامة المتراكمة و مياه المجارير الراكدة ، و المواد الغذائية واللحوم المتعفنة في المنازل و المحلات إضافة إلى الحشرات والميكروبات والقوارض والحيوانات ، علاوة على عدم وصول كافة الخدمات العامة والركام المتجمّع و انتشار مخلفات الحرب، فمع اتساع رقعة انتشار هذه الأشياء تتسع معها المخاوف أيضا من أنتشار الأمراض المعدية .
تعيش مدينة بنغازي ثاني أكبر المدن الليبية اليوم ومنذ منتصف أكتوبر من العام 2014 حربا داخل أحيائها السكنية. كانت هذه الحرب منتظرة فقد جاءت بعد اكثر من سنتين من عدم الاستقرار كانت تعيشها المدينة و سكانها، فقد شهدت المئات من حالات الإغتيال و الخطف والتعذيب و التنكيل بالجثث ، و كذلك التفجيرات التي تطال الجميع دون تفريق بين جنس أو عمر.
هذه الحرب أفرزت أيضا نزوح أكثر من 21 ألف عائلة تقطن حاليا إمّا في بيوت مؤجّرة بأسعار مرتفعة في الأحياء الآمنة، قد تتجاوز الألف دينار ليبي شهريا. كما أنّ العديد من العائلات و مع تردي الوضع المعيشي و الاقتصادي في المدينة، ٱتّخذوا من المدارس أماكن إيواء لهم و تركوا مناطقهم لأنها باتت ساحات حرب تجتاحها رائحة الدمار والدماء .
ليس هناك أفضل من متطوعي جمعية الهلال الأحمر الليبي لوصف الوضع المأساوي لمدينة بنغازي بدقة كونهم عاينوه ودخلوا مرات عديدة لكل تلك المناطق ، ففي حوار مع المكتب الإعلامي للجمعية عن الحالة البيئية لتلك المناطق قالوا " دخلنا إلى كل مناطق الإشتباكات ، منها قاريونس، الليثي، بوعطني، سوق الحوت، ووسط البلاد والصابري . قد يبدو الأمر صادما للوهلة الأولى لكن بضع خطوات داخل تلك المناطق تكفي لٱستنتاج مدى كارثيّة الوضع خاصّة إذا ربطنا الصّورة بتحليل بسيط للمعطيات و نتائجها المتوقعة. نحن على أبواب كارثة ولا ندري إذا كان بالإمكان تداركها. وقد أدركنا ذلك إثر دخول "منطقة بوعطني" .كانت الجثث في كل مكان، في الشوارع و داخل الأزقة وتحت الركام ، بعضها متحلله، بعضها عليها آثار نهش حيوانات، أشلاء وأحشاء ودماء متناثرة أينما وطأت أقدامنا ، بقايا طعام و قمامة، مياه الصرف الصحي في كلّ مكان ... هذه مخلفات الحرب ... رائحة الجثث تملأ المكان و انتشار كبير للكلاب المسعورة و الحشرات ، ناهيك عن الكائنات الدقيقة التي لايمكن رؤيتها بالعين المجرّدة ... انتشلنا ما يزيد عن مئة جثة من تلك المنطقة ... كان العديد منها يصعب التعرّف عليه نتيجة تحلّلها قمنا بتحاليل جينيّة و تم دفن العديد من هذه الجثث. لقد تمكّنّا من تنظيف منطقة بوعطني بإمكانيات بسيطة ، لكن عند انتهاء الاشتباكات في كل المناطق، سيكون الوضع أكثر كارثية " .
صمتوا قليلا ثمّ قالوا ونبرات صوتهم الحزينة تعكس مدى خطورة الموقف وعمق المأساة :" رغم قلة الإمكانيات فإنّنا سنحاول العمل على منع عودة أهلنا من النازحين، إلى حين تأمين هذه المناطق بشكل كامل لضمان سلامتهم الشخصية والصحية " .
كما نبه في وقت سابق الدكتور أحمد الحاسي إستشاري الأمراض المعدية في مركز بنغازي الطبي من الانتشار الرّهيب لكلاب الشوارع داخل أحياء المدينة ، ووصف ما رآه بنفسه من كلاب تأكل بعضها البعض على أنه مؤشر خطير جدا لوجود داء الكلب ، و أن عضة الكلاب للإنسان في هذه المرحلة تؤدي للإصابة بهذا المرض الخطير والموت وارد بدرجة كبيرة مع تعذر وجود اللقاحات و الأمصال الخاصة للعلاج .
و في السياق ذاته أكد الدكتور أحمد الحداد إختصاصي الأمراض المعدية أن ظروف الحرب و الكوارث الطبيعية عامة هي ظروف مهيئة لإنتقال الأمراض ، و الخوف الأكبر دائما هو من الأمراض التي تنتقل بالإحتكاك ، كذلك المتناقله عن طريق الجهاز الهضمي كالكوليرا والسالمونيلا والشايقيلا و إي كولاي و الطاعون و غيرها "
و أضاف د. الحداد " يجب القيام وقبل عودة النازحين بعملية إصحاح بيئي شامل و كامل لكل مناطق الإشتباكات و يتم معها رش المبيدات وقتل كافة نواقل المرض والتخلص منها ، كذلك يجب توفرالواقيات الشخصية المتكامله وعالية الجودة لمن سيقوم بعملية التنظيف ، و إختيار أشخاص مخولين بذلك حتى لا يصابوا بأي عدوى و يصبحوا ناقلين للأمراض ، مع ضرورة التركيز على سلامة المياه ، ونظرا لأن بعض مناطق الإشتباكات تطل على البحر مباشرة فيجب إيقاف ومنع عمليات الصيد إلى أن يتم التأكد من سلامة الأسماك و الكائنات البحرية وصلاحيتها للإستهلاك " .
وحيث أن جرحى الاشتباكات من داخل هذه المناطق حاليا يتم إسعافهم في المستشفيات الحكومية ونظرا لغياب معطيات دقيقة حول ما تحتويه هذه المناطق فعليا من أمراض ، فقد أشار دكتور مختص في مكافحة العدوى داخل المرافق الصحية إلى نقطة هامة جدا عند إسعاف هؤلاء الجرحى : " لتفادي خطر إنتقال العدوى للجرحى المتوقع إصابتهم بأي من الأمراض المعدية ينصح وبمجرد وصول الجريح للمشفى أن يتم وضعه في غرفة خاصة للإسعاف ، مع ضمان أن يتم تنظيف وتطهير الغرفة بإستخدام مطهرات عالية الجودة ، كما يجب تغيير الملاؤات الخاصة بالأسرة و التخلص منها بعد الإنتهاء من الكشف في أكياس بلاستيكية ومعاملتها كمخلفات طبية ، و يجب تخصيص مسعف و طبيب و تمريض خاصين بهؤلاء الجرحى مجهزين بالملابس الواقية ومتمكّنين من أساسيات مكافحة العدوى ، بالإضافة إلى ذلك يجب تنظيف الأدوات والمعدات و تطهيرها ومن ثم تعقيمها أما الألبسة الواقية والقفازات فيجب معاملتها كمخلفات طبية . كل ذلك لضمان سلامة الجميع " .
ومن جهته قال المهندس أحمد العلاقي إستشاري إدارة الأزمة في تجمع وسط البلاد " يجب أن يتم تدارك الأمر بإتخاذ خطة أزمة بها خطوات وقائية سريعة جدا ، مثل التطعيم ضد الأوبئة و الكشف البصري على المباني للتأكد من سلامتها كذلك قتل كافة الحيوانات الموجودة داخل مناطق الإشتباكات ، و من أهم الخطوات هو رش المناطق بالمبيدات لمدة أسبوع ، و حاليا يتم العمل على إصدار وثيقة لتأمين عودة النازحين و سيتم تسليمها لجهات الإختصاص لإعتمادها والعمل عليها " .
و عند التحدث مع بعض النازحين من هذه المناطق و محاولة إيضاح الصورة لهم كانت الردود متفاوته فأعرب بعضهم عن خوفهم من العودة إلى منازلهم ولديهم معرفة بحجم المشكلة وهناك من لا يدرك أي خطر لها ويريد فقط العودة مهما كان الثمن .
الحاج فتحي " أقيم أنا وعائلتي بالكامل في فصل دراسي منذ أشهر، لا يمكنكم تخيل وضعي و حياتي، لا يهمني ما سيصيبني من أمراض. أريد فقط أن أموت في بيتي ولو كان بقايا ركام يحتضن كل الأمراض ، وحتى لو أصابني مرض فعلبة بنادول و حساء بالزعتر ترجعني أفضل من السابق " .
السيدة أسماء " خلال هذه الشهور أنتقل أنا وعائلتي ووالدتي المريضة بين منازل أقاربي ، حقا الوضع لا يحتمل و لكن صبرنا على الكثير وإن كان ما سنصبر عليه بعد التحرير في صالح الجميع لا بأس بشرط ألا تطول المدة " .
السيد رجب " أعلم تماما حجم الكارثة و الوضع البيئي السيء من وجود عوامل للأمراض ومخلفات الحرب ، عانيت الكثير جدا في هذه الفترة لكن لن أجازف و أرجع بعائلتي وأطفالي قبل أن يتم تنظيف منطقتنا بالكامل ، و أتأكد من سلامتها بنفسي قبل أن أدخلهم " .
السيد أحمد " عندما أسمع أن منطقتي تحررت سأذهب إليها على الفور ، لا يمكن لأيّ شيء إيقافي ، لن أفكر في أي عواقب ، فمنزلي أصبح كومة حجارة و لاشيء أسوأ من ذلك سيحصل لي ".
عدم إتخاذ حلول عاجلة و توفير إجراءات طارئة لهذه المشكله قبل وقوعها قد يؤدي إلى إنتشار الأمراض المعدية و الأوبئة التي قد تهدد مجتمع بأكمله فبعد إنتهاء هذه الحرب ربما سينخفظ حقا صوت السلاح قليلا ، و لكن بالمقابل سيرتفع صوت الموت عاليا إذا لم نتفاد الأمر .