ففي مسألة مصيريّة كالمجموعات المسلّحة وكيفيّة التّخلّص من فوضى انتشار السّلاح يقترح رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا مارتن كوبلر إنشاء ثلاثة جيوش في ليبيا لحل معضلة الجيش الذي اختفى منذ هزيمة تشاد، ولم يبق منه إلا "جيش أبوبكر" الذي انصرف قادته إلى البزنس، منذ أن وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل في مدينة هون، ويرى كوبلر أن تأسيس ثلاثة جيوش سيلغي عمليا المادة الثامنة من الاتفاق السياسي التي لا تزال تثير خلافا حادا بين الفرقاء الليبيين، وبين أعضاء المجلس الرئاسي، ويبدو أن اليأس تسرب إلى كوبلر وهو يحاول جمع حزمة الكرناف، ففي لقائه الأخير بعضو المجلس الرئاسي المقاطع علي القطراني في القاهرة، اشترط القطراني إلغاء جميع القرارات التي اتخذها المجلس في غيابه، وإلغاء المادة الثامنة من الاتفاق السياسي، وإقالة العقيد المهدي البرغثي من منصب وزير الدفاع حتى يعود إلى المجلس الرئاسي.
من الأكيد أن كوبلر نظر باندهاش إلى القطراني وشعر أنه يغوص في رمال متحركة، ولكنّه أدرك اليوم أنّ هذه البلاد لا تشبه أفغانستان حيث نجح في مهمته بفضل صلابة الجبال التي كان يقف عليها، فمن الواضح أنّ ليبيا هي متاهة رملية وبها شعب يجيد الانقسام والخلاف إلا إذا حكمه طاغية، وعندها يجيد الهتاف والتصفيق لهذا الطاغية، حسب عمر الكدي رئيس تحرير بوّابة الوسط.
ويقرّ كوبلر أن ليبيا مقسمة واقعيا، فثمة حكومة الوفاق في طرابلس، وحكومة مؤقتة أحيانا في البيضاء وأحيانا في قرية لالي قرب القيقب، وبعد أن نسينا حكومة الإنقاذ ورئيسها خليفة الغويل، فاجأنا الأخير يوم الأربعاء 13 جويلية (ثلاثة أشهر بعد تنحّيه) باحتجاجه الشديد على حكومة الوفاق لأنها انتقلت إلى مقرها الرسمي في طريق السكة حيث كان يزاول مهامه، وبالإضافة إلى مجلس النواب المعطل في طبرق هناك المجلس الأعلى للدولة في طرابلس، وبالتالي فان العقل الألماني تساءل لماذا لا يكون لهذا البلد ثلاثة جيوش لتصبح ليبيا مقسمة إلى ثلاث دول أو ثلاث ولايات كونفدرالية؟.
من هنا جاءت فكرة إنشاء ثلاثة جيوش ولكنّها فكرة خطيرة ما لم يخضع لقيادة واحدة، ففي الدول الكبرى توجد عدة جيوش ولكن هناك قيادة واحدة فقط لهذه الجيوش، ومن الممكن إنشاء ثلاثة جيوش ولكن في هذا الوقت من الصعب التوافق على قيادة واحدة، فالفريق حفتر مصرّ على البقاء في منصبه مهما حدث للبلاد، وأنصاره مصرون على المضي وراءه حتى وإن اختفت بنغازي من الوجود، بينما يرفض مناهضو حفتر بقاءه في منصبه حتى ولو أدى ذلك إلى حرب أهلية تأتي على ما تبقى من الوطن، والتحركات الأخيرة لسرايا الدفاع عن بنغازي التي يرعاها مفتن الديار الليبية مقدمة لهذه الحرب.
في شرق البلاد اختفت المليشيات باستثناء المليشيات الموجودة في حي الصابري وسوق الحوت، وتشكل جيش وراء حفتر لا يمكن تصنيفه كجيش نظامي محترف، وإنما هو خليط من عسكريين سابقين ومليشيات ذابت في الكيان الجديد ومقاتلين يقاتلون من أجل المال، وخطورة هذا الجيش أن ولاءه لقائده فقط وليس للسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وليس سرا أن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس الحكومة المؤقتة عبد الله الثني هما مجرد دميتين بيد حفتر، وفي غرب البلاد لا يوجد جيش وإنما توجد مليشيات لا تأتمر بأمر رئيس المجلس الرئاسي، ولا بأمر وزير الدفاع وإنما بأمر قادتها، وتشكيل جيش من هؤلاء سيمهد لظهور دكتاتورية عسكرية، إذا اتفق قادة الجيش الجديد أي قادة المليشيات على القيام بانقلاب عسكري.
والمشكل الآتي هو أنّ بعد تحرير سرت من تنظيم داعش ستختلط الأوراق من جديد، وسيفقد حفتر ورقة محاربة الإرهاب التي ستنتزعها قوات البنيان المرصوص أي مصراتة، بعد أن فقدت 241 قتيلا و1400 جريح خلال شهرين، وعندها سيعاد النظر في الخارطة الليبية عسكريا وسياسيا، بحيث يمكن بروز قيادة عسكرية أكثر شبابا تستطيع بناء جيش موحد ومحترف، وإذا لم نستطع حتى الآن بناء جيش واحد فكيف نستطيع بناء ثلاثة جيوش؟ يبدو أن كوبلر أصيب بضربة شمس ليبية وأخذ يهذي.