تمثّل الوديان محور الحياة في هذه السلسلة الجبليّة، وتحتضن العديد من المراعي التي يعتمد عليها سكان المناطق القريبة من الجبل في رعي قطعانهم. وبما أنّه من الطّبيعي أن تكون زيارتنا لهذه الجبال في يوم مشمس جميل، استغلّ الرّعاة جمال الطّقس هذا للخروج بقطعانهم فكان لقاؤنا بهم في سفح الجبل.
اعترضنا في طريقنا قطيعا كبيرا من الماعز يعدّ مئات من الرّؤوس فاستأذنت من دليلنا البقاء قليلا مع الرّعاة الثّلاثة السّاهرين على راحة القطيع. كانت فرصة لمعرفة كيف يعيش هذا القوم وكيف يواجهون غوائل الدّهر.
ثلاثتهم أبناء عمومة ينحدرون من سبها، اختار جدّهم الأوّل الاعتكاف في الجبل في أواسط القرن الماضي هروبا من ظلم السّلط. آباؤهم ساهموا في تنمية هذا القطيع، مورد رزقهم الوحيد. سألناهم عن الدّراسة والصحّة وعلاقتهم بالحياة المدنيّة فقالوا بأنّهم لم يذهبوا إلى المدرسة لأنّها موجودة بضواحي سبها وتبعد عشرات الكيلومترات عن الجبل. وتساءل كبيرهم مصطفى، وهو قد تجاوز العشرين بقليل: "ومن سيهتمّ بالقطيع في هذه الأماكن النّائية إذا غادر ثلاثتنا إلى سبها؟".
مصطفى روى لنا كيف أنّ جدّهم علّمهم المبادئ الأساسيّة للقراءة والكتابة والحساب:" كانت لنا حصص يوميّة بعد العصر إثر العودة من المرعى وأنا اليوم بإمكاني قراءة جريدة يوميّة".
أوسط الرّعاة سنّا، سالم، حكى لنا عن تخصّص جدّهم في النباتات البرّية وفوائدها الصحّية. وانبرى يتحدّث عن بعض الأشجار المعمرة الّتي يصل عمر البعض منها لأربعمائة عام، كشجرة الأذخر وشجرة الروبيا والجعدة. وأغلب هذه الأشجار والنباتات تنمو بشكل كبير في أوقات السيل الذي تشهده وديان الجبل، حسب محدّثنا.
وأضاف سالم كيف أنّ: "تنوع الحياة النباتية نتج عنه تنوع ملحوظ في الحياة الحيوانية، حيث كانت وديان الجبل ومرتفعاته مليئة ببقر الوحش، والغزلان، والودان والثعالب، والأرانب، والأفاعي، هذا عدا الطيور المختلفة كالغراب، والفنك، والصقر، وابوغرير، والهدهد وغيرها، ولكن أغلب هذه الحيوانات تناقص عددها بشكل كبير نتيجة لعمليات الصيد والرعي الجائر".
ولفت سالم نظرنا إلى وجود محمية "وادي الززعة"، التي صارت أثراً بعد عين. "هذه المحمية كانت تزخر بالحياة البرية والتنوع النباتي قبل أن يقضي عليها الإهمال والاستخدام غير المسؤول من قبل رواد الجبل، إلى أن أصبحت الآن المنطقة مكاناً للاحتطاب، ومكباً للأسلحة الفاسدة التي سترونها تملأ المكان".
الشيخ، أصغر مخاطبينا، حدّثنا عن الماء في هذه الأقاصي البعيدة. تحدّث الشّيخ عمّا يعرف بالأثماد ، وهي عبارة عن حفرة على هيئة بئر، كان الناس يقومون في السابق بإعدادها لتخزين أكبر كمية من الماء بعد نزوح مياه السيل، وتوجد في جبل الحساونة ست أثماد سعة الواحدة منها تقريباً عشرة أمتار مكعبة. وذكر الشّيخ أنّه توجد مخازن أخرى للمياه تسمى القلات جمع قلتة، وهي عبارة عن أحواض طبيعية تتسع لثلاثين ألف مترا مكعبا من المياه. وإن كان أغلبها قد دُمِّر في الحروب بين القبائل.
الشّيخ ذكر لنا أيضا أنّ هذا الجبل يوجد على طريق القوافل التي كانت تجلب بضائع إفريقيا إلى الشمال، وأنّ آثار هذه الطرق المعروفة بـ"الطرق العربية" مازالت موجودة بوضوح، ويسترشد بها رواد الجبل والرعاة في وديانه، وكانت قوافل الشمال تأتي بالقمح والشعير الذي يعتبر الغذاء الأساسي لسكان الجبل في ذلك الوقت.
حديث رعاتنا شيّق ويعكس علما واسعا لمن علّمهم. ولكن قليلون من يسكنون اليوم أحد هذه السلاسل الجبلية. فالجميع قد استوطن في بلدات وقرى وادي الشاطئ، وأصبح الجبل متنزها لسكان الوادي، ومرعى لأصحاب قطعان الإبل والأغنام، ومكاناً لممارسة هواية الصيد. والجبل كان ولايزال ملجأ لكل خارج عن القانون أو خائف من الثأر، مثلما كان شأن جدّ رعاتنا الثّلاثة الّذي قرّر الاعتكاف هناك.