بدأت كلامها بصوت حزين مثقل بالهموم والألم قائلة " أعتذر عن بكائي ولكن إذا ما أردت التحدث عن حياتي فالدموع دائما تسبقني. أنا مطلقة ويتيمة الوالدين. توفيت والدتي منذ أن كنت صغيرة ولدي أخوين أشقاء. و بعد وفاة أمي تزوج أبي من إمرأة آخرى ،أنجبت و أصبح لدي إخوة آخرين من والدي. لا يخفى على أحد معاملة زوجة الأب ولن أتحدث عن ذلك، لأن هذا الأمر يواجهه العديد من الأشخاص. تزوجت و انجبت ولدا وبعد خلافات تم الإنفصال ومن هنا بدأت الهموم تنهمر حولي من كل جانب ، فالمرأة المطلقة تقع تحت نظرة قاسية بحكم ثقافة المجتمع ، فتصبح محط الأنظار والمراقبة وكأنها بطلاقها صنفت من ذوي السوابق الإجرامية و تعامل معاملة عنصرية تختلف عن باقي النساء. كل تحركاتها و كلماتها محسوبة عليها ورغم ذلك كان كل ما يهمني أن أعمل بما يرضي الله لأربي أبني تربية سليمة وأصرف عليه من مال حلال ، ليكون سندي في الحياة وعكازي الذي أتكئ عليه عندما لا يقوى جسدي على التحمل. عملت سفرجية في إحدى المستشفيات العامة في المدينة منذ حوالي تسع سنوات ، وبعد طلاقي قام والدي بإعطائي ملحق صغير على سطح المنزل أقمت فيه مع ابني ، إلى أن توفى والدي وهذه كانت بداية المأساة الحقيقية لي ".
وتابعت " هـ .ع " قصتها قائلة " أصبح ا إخوتي من والدي يضايقونني كثيرا ويريدون ذلك الملحق الذي يأويني وابني. أما اخوتي الأشقاء فلكل منهم أسرته وحياته الخاصة كنت أذهب لزيارتهم دائما لكن أقيم في منزل أبي و كنت أتحمل الكثير ولا أكترث ، إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم الذي قرر فيه إخوتي من أبي طردي من المنزل. ذهبت إلى شقيقي الأكبر وأخبرته بالأمر وبأني أود أن أقيم معه فترة إلى أن يهدأ الوضع قليلا ، وافق لكن في نفس الوقت أراد الذهاب لمنزل والدي ليتفاهم معهم بهذا الشأن ، ترددت كثيرا واستجديته بعدم الذهاب لكنه لم يكترث و ذهب معنا شقيقنا الآخر وهو مريض مصاب بالسرطان وصحته متدهورة. وصلنا إلى المنزل و بدأ إخوتي النقاش مع زوجة أبي وأبنائها بشأني ليقنعوهم بحقي في البقاء في المنزل " .
أخذت " هـ .ع " نفسا عميقا كأنها تحاول إخفاء آثار ذكرى مؤلمة و قالت " اشتد النقاش كثيرا و تعالت الأصوات و بين هذا الصخب خرج إلينا أحد أخوتي من أبي وقال أنا أعلم كيف سأنهي هذا الجدال و كان يحمل في يده سلاحا ناريا ،بدون ترددو بيدين ثابتتين أطلق النار على أخي الأكبر أرداه قتيلا ، لحظات صمت سادت المكان و أنا أرى ذلك الجسد الذي لطالما احتميت به و سندي في هذه الحياه يهوي أمامي ساقطا على الأرض غارقا في دمائه ، لفظ أنفاسه الأخيره و هو يحاول دفع ظلم عظيم عني. لحظات مرت كأعوام لا شيء يوحي بأن ما أراه حقيقة. انتظرت أن أستيقظ من هذا الكابوس البشع لكن دون جدوى تلك كانت الحقيقة التي عليّ تحملها، أنا من تسببت في مقتل أخي ويتمت أبناءه السبعة. كان ذلك في منتصف شهر أغسطس من عام 2014 ".
لم تنته معاناتها عند هذا الحد وكأن الحزن أقسم على أن يكون رفيقها الدائم. عاشت لحظات ألم كبيرة و لم تتحمل موت أخيها و مشاهدتها لأحداث مقتله وكل الظلم الذي وقع عليها. حُبس الأخ الذي سلب روح أخيه ظلما ، أما هي أصبح من المستحيل أن ترجع لذلك البيت الموحش ، فأقامت في منزل أخيها الآخر إلى أن اندلعت الحرب على الإرهاب في أكتوبر من نفس العام ، لكن ظروف أخيها المعيشية و مرضه و وقوع منزله في منطقة اشتباكات و خروجه وعائلته للإقامة في منزل أهل زوجته ، كل هذا حال بينها وبين إستمرار بقائها معه .
وتستمر " هـ .ع " في الحديث عن ما حصل معها بعد ذلك قائلة " بعد خروجنا من منزل أخي لوقوعه في منطقة إشتباكات توجهت أنا وابني للإقامة في منزل إحدى قريباتي. أقمت لديها لفترة ثم أقمت لدى صديقة لي و كنت لا أريد أن أكون عبئا على من رحّب بي في منزله ، فلكل بيت أسراره وخصوصياته ولا يمكنني الإقامة الدائمة لدى أحد. خرجت في أحد الأيام صحبة ابني بسيارتي الخاصة تجولت في المدينة علني أجد أي منزل بإيجار أستطيع دفعه، لكن جشع التجار كان أمر وأقسى. إتصلت بي صديقة تسأل عن حالي فأخبرتها بوضعي اقترحت عليّ أن أقيم في مدرسة بها نازحين ، وافقت على الفور وكانت هذه المدرسة في ضواحي المدينة ، أقمت فيها لمدة أربعة أشهر ومن ثم وجدت مدرسة أفضل في وسط المدينة انتقلت لها و حاليا أقيم بها منذ حوالي سبعة أشهر ، ورغم كل ما أعانيه أحمد الله كل وقت وحين على نعمة الصحة و السمعة الحسنة و وجود ابني بجانبي وتفوقه العلمي فهذا يكفيني ولا يسعني إلا أن أقول حسبي الله ونعم الوكيل ".
في آخر الممر، يوجد ذلك الفصل الدراسي الصغير الذي يأوي هذه السيدة مع إبنها ومع قصص تدمي القلب قبل العين. ورغم ما عاشته هذه السيدة من مآسي فكل العائلات المقيمة بالمكان تشهد بطيبة قلبها وبأخلاقها العالية و كل النساء في المدرسة يعتبرن هذه الحجرة الصغيرة ملجأ لهن كلما ضاق الحال. تركتها عند نافذتها تطالع السماء منتظرة الأمل والفرج والمطر كان يتساقط ليروي الأرض ودموعها تتساقط حنينا لمن غابوا تحت التراب. خرجت و أغلقت ورائي باب غرفتها على أمل أن تنغلق يوما أبواب الجراح في قلبها.