و يبرز هذا التشابك بين العنف و معتقدات الذكورة في الحالة الليبية لاضطرار المرأة للخروج للعمل و الانخراط في العمل السياسي القيادي، بعد سنوات طويلة من الصراع المسلّح.
و بالتالي فإنّ كلّ محاولة للحركات النسوية أو منظمات المجتمع المدني لتمكين المرأة و تعزيز حضورها في المشهد السياسي و المجتمع ستٌعتبر تحديّا و تهديدا للمنظومة الاستبدادية والإقصائية للعنصر النسائي الفاعل. من هذا المنطلق، يمكن استشراف ممارسات العنف الجسدي و الرمزي ضد الكثير من نساء ليبيا بسبب صعوبة تحقيق العدالة الانتقالية و فتح ملفات الانتهاكات و الاغتصاب الذي مٌرس عليهن خلال فترة النزاع.
وقد يؤكد هذا الاستنتاج أنّ غياب سياسات واضحة لتمكين المرأة و التنمية و الإصلاح في فترة ما بعد النزاع سيعطل مساعي المجتمع المدني و الهيئات الدستورية من اجل تعزيز دور المرأة في بناء الدولة كمواطن واعي و فاعل. كما أنّ ازدياد منسوب العنف يعبّر في جانب منه عن تضخمّ في تقدير الذات (الانتماء القبليّ / المناطقي) و استحقار للطرف المقابل وخاصّة منه الأقلّيّات. لذا فإنّ حالات العنف و الاعتداء المسلّح أو التراشق بالتهم في منابر الإعلام يمثّل اليوم في ليبيا أحد مظاهر النرجسية و الكبر التي ورثتها تاريخيا الكثير من القبائل الليبية على حساب أخرى، التي صار لمعظمها وزن سياسي و حضور ميداني بعد ثورة فبراير. وقد أثّر ذلك سلبيّا على حضور المرأة اللّيبيّة في المشهد السّياسي والفعل المجتمعي.
إن اعتبارات الفوارق الاجتماعية والثقافية (النسب/حضر/بدو/عرب/بربر…) بين بعض القبائل ستظهر تفاصيلها في الإعلام و الشبكات الاجتماعية في فترة ما بعد النزاع، و بخاصة في مجتمع لم يتعوّد على ثقافة الاختلاف و تتجذّر فيه الفوارق كحقائق حتمية تٌزاوج بين السلطة و الأفكار النمطية.
في اغلب حالات ما بعد الصراع تتحوّل الميليشيات المسلحة الى عصابات إجرامية قادرة على تقديم الحماية للناس أو للبضائع. و تظهر التحالفات بين الكثير من هذه الميليشيات التي تركز على تجارة المخدرات، السلاح، الهجرة غير الشرعية، الكحول، عمليات الاختطاف وغيرها مجسّدة سيطرة العنف اليومي للعصابات المنظّمة في ليبيا على الحياة اليوميّة. ويؤثّر هذا العنف على الأقلّيّات ومن ضمنها المرأة، خاصّة في المجتمعات العربيّة.
و قد أثّرت مختلف هذه المعطيات على الدّيناميكيّة الدّاخليّة للحالة الليبية خاصّة فيما يتعلّق بوضعيّة المرأة والعنف المسلّط عليها لذا تبقى من المهم الإشارة الى ضرورة التيقظ فيما يتعلق بعوامل تواصل العنف فيما بعد فترة النزاع. و تتمثل العوامل الدّالّة على ازدياد منسوب العنف اليومي في الأحوال الاجتماعية و الاقتصادية المتسمّة بظهور الاختلافات الاجتماعية والعائلية المتعدّدة المفاصل حول دور المرأة في المجتمع وخروجها للشّغل وسفرها للدّراسة أو للقيام بمهامّ ودورات تكوينيّة... الخ.
وتذكّر الصحفيّة ليلى من طرابلس كيف أنّ ' بعضهم حاول إقرار تشريعات تفرض أن تكون المرأة مصحوبة بمحرم في سفرها ولكن سرعان ما وقع التّخلّي على هذا التّمشّي بعد انتفاض عديد النّساء ضدّه '. ومن الواضح أيضا أنّ العوامل الثقافية والتاريخية ساهمت في عودة هذه المظاهر إلى الواجهة كما أنّه من البديهي أن الضعف الأمني و المؤسساتي خلال فترة إعادة بناء الدولة المتزاوج مع ظاهرة الفساد و توّفر السلاح يجعل من وجودها و تأثيرها مرئيا ويجعل الأقلّيّات والأطفال والنّساء في حكم المستضعفين.
وتفسّر الصّحفيّة لمراسلة أصوات الكثبان كيف أنّ الفترة الانتقاليّة تمتحن قدرة كلّ من الفاعلين السياسيين و المواطنين على الالتزام بمبادئ التّعايش بين مختلف الشّرائح الاجتماعيّة والاتجاه الكليّ نحو بناء الدولة على مبادئ التشارك في الحكم و ثقافة المواطنة. ولكنّ الوضع اللّيبي لم ينضج بعد لذلك وبالتالي سيكون على الجميع انتظار انتهاء الاقتتال في ليبيا والتّوق إلى اللّحظة التاريخية الّتي تضع اللّيبيين في مواجهة تحديات سيناريو ما بعد النزاع الذي يستوجب استراتيجيات واضحة و جهود مكثفة لتحقيق العدالة و المصالحة و إعادة البناء ويمكّن المرأة وكلّ الأقلّيات من الحصول على حقوقهم.
و بالتالي لا يمكن للمجتمع الليبي أن يتجاوز مخلفات المحنة الحالية في فترة ما بعد النزاع، التي من المهم أن لا تطول أكثر، إلا من خلال تقوية دور المواطن و انخراطه الفاعل في منظومة إعادة بناء الدولة الحديثة الّتي سيكون فيها للمرأة شأن واعتبار.