آمنة منت اعل أو آمنة منت المختار، ذلك الاسم الجديد الذي حصلت عليه لدى اقتنائها جواز سفر مزوّر لتنجو بحياتها وتهرب من موريتانيا أثناء سنوات الجمر(1989-1991: النزاع العرقي مع السنغال)، مازالت تدفع منذ سنين المراهقة ضريبة التمرّد على الأحكام السيّاسية المتعاقبة والنظم القبليّة السّائدة.
وتُعبّر آمنة عن ذلك بقولها: "صحيح أنّي أزعج منذ عهد طويل بسبب جرأتي على تحدّي الأسرة أوّلا ثم النّظام السّائد لاحقا...". وتضيف قائلة: "لقد كان أهلي يملكون عبيدا ورفضت هذا الوضع وأنا صبيّة كما قدّموني زوجة لأحد أصدقاء أبي وأنا لم يتجاوز عمري حينها 13 سنة فرفضت ذلك كله؛ بعدها التحقتُ بحركة الكادحين (حركة طلابيّة يساريّة معارضة) لأواجه على إثر ذلك السّجن والتّعذيب".
اليوم وبعد مرور أربعين سنة تترأس آمنة جمعيّة للدفاع عن حقوق النّساء ضحايا العنف والاستعباد إلاّ أنها تدافع أيضا عن الرجال ممّن تعرّضوا للظّلم والاضطهاد حتّى ولو كانوا ممّن يناصبونها العداء جهار نهارا.
وتؤكّد النّاشطة -التي رُشّحت لجائزة نوبل للسّلام 2015- هذا الأمر بقولها : " لقد صدرت فتوى بتكفيري من طرف شخص متعصّب دعا فيها المسلمين إلى فقأ عيني ثم قطع رأسي ومع ذلك فإنّي كنت أدافع عن أصدقائه السّلفيين عندما كانوا يتعرضون للتعسّف من طرف الشّرطة والقضاء".
وتسرد آمنة أسباب الفتوى قائلة بصوت يخفي كثيرا من المرارة :" لقد كان كافيّا لهذا المفتي الدّعيّ أن يحكم عليّ بالإعدام لمجرّد أني طالبت بمحاكمة عادلة ومنصفة لشابّ اتّهِم بالرّدة عن الإسلام رغم إعلانه توبته". وكانت آمنة منت المختار قد طالبت بمحاكمة عادلة للشاب محمد الشيخ ولد امخيطير المحكوم عليه بالإعدام من طرف المحكمة الجنائيّة بمدينة نواذيبو، ثاني أكبر مدينة موريتانية، والواقعة شمال البلاد.
لكن آمنة منت المختار ليست الوحيدة على القائمة السّوداء الخاصّة "بالنّساء المارقات". فحالها كحال خبيرة علوم الأحياء مكفولة منت إبراهيم التي تناضل هي أيضا من أجل حريّة التّعبير في بلادها.
تروي مكفولة قصّتها قائلة: "لقد تجرّأت على الحديث إلى رجال الدّين ومقارعة حججهم وتقديم رؤيتي المختلفة للإسلام. الأمر الذي يُنظر إليه في بلدنا كنوع من التّجديف فنحن في مجتمع لا صوت للمرأة فيه كما أنّها لا تحظى بأيّ منبر في الفضاء العام."
تتذكّر مكفولة جيّدا بداية المنعرج الكبير في حياتها فتقول: "كانت القطرة التي أفاضت كأس الظّلم الذي تحمّلته طويلا هي قراري أن أعيش حياتي مستقلّة مع ابني ذي العشرة سنين وذلك بعد طلاقي الثالث حيث كنت أملك منزلا وعملا وسيّارة".
بيد أن أسرتها ألحّت على وجوب رجوعها إلى بيت الطّاعة العائلي محاولين منعها من مغادرة البيت الكبير بتعلة احترام العادات والتقاليد.
وتشرح مكفولة ما حصل فتقول: "في مجتمعنا تُحدّد العائلة كلَّ شيء للمرأة: دراساتها وأسفارها وهواياتها وعلاقاتها. لا تترك لها عادة سوى حق تسيير المطبخ".
وتواصل قائلة :"يدّعون أنّنا أميرات بينما نحن في الحقيقة جواري ! يجب علينا أن نصمت ولوكنّا نعاني الأمرّين. يفرض علينا المجتمع كتم أنيننا أوقات البؤس وكبت حرماننا وحاجاتنا ورغباتنا. لتركيع النّساء في بلدي، فإن أول أداة لذلك بعد سلاح العادات والتقاليد هي استعمال الدين لتحقيرنا وردعنا ولهذا قررتُ أن أناضل من أجل نفسي ومن أجل نساء بلادي".
وتثير صفحة مكفولة على الفايسبوك كثيرا من النّقاشات الحادة على شبكات التّواصل الاجتماعي حيث يتابعها أكثر من 11000 معجبا؛ فضلا عن إشعالها أحيانا أحاديث الصّالونات في العاصمة نواكشوط.
بالنسبة لميّ مصطفى فقد أصبحت اليوم رغما عنها أيقونة عند كثير من الشباب من جيلها.
وتحكي ميّ قصة نضالها قائلة: "أتلقّى يوميا السّب والشّتم والتّهديد بسبب أني كتبت على صفحتي على الفايسبوك دعمي للعلمانيّة كنظام حكم بمقدوره ضمان حريّات الجميع. ويخلط الناس هنا بسهولة ما بين العلمانيّة والإلحاد. فبالرّغم من أنّي لم أستفز أحدا إلاّ أن مهنتي كمخرجة سينمائيّة تُمثّل في حدّ ذاتها استفزازا لمجتمعنا المحافظ".
لقد اختارت هذه الفتاة ذات العشرين ربيعا تعلّم مهن الصّورة والسّينما منذ نعومة أظافرها. فمنذ أربع سنوات وهي تقوم بإخراج الأفلام القصيرة حيث كان آخرها "عشتار وإيزيس" وهو فيلم يندّد بالضّغوطات الاجتماعية الممارسة على المرأة.
وترى ميّ بأن هذا الفيلم الذي "حظيّ بجائزة مهرجان كرم بغزة وأمستردام قد جلب لها كثيرا من العداء في موريتانيا بسبب من وصفوه بالفيلم الإباحي".
وتضيف ميّ: "عندما أعلنت عن كاستينغ لفيلمي القادم جاءتني 25 فتاة ترغب في لعب دور البطولة. وقد همسن إليّ برغبتهنّ الجامحة في العمل معي في هذا الفيلم الجديد إلا أنّهنّ غير قادرات على مواجهة أسرهنّ. ويُنظرُ إلى الشّاب السّينمائي بكثير من الازدراء في بلادي، فما بالك إذا كانت فتاة هي من تقف أمام الكاميرا للتّمثيل. كل هذا صار يؤلمني كثيرا ".
في نهاية المطاف فإن الشّابة ميّ لا تطلب كثيرا -حسب ما تقول- فهي تتطلّع فقط إلى الحصول على حقّ ممارسة المهنة التي أحبّتها وأن تعيش حرّة في بلد يصون حقوقها.
لإيصال صوت هؤلاء النسوة المناضلات، قرر السينمائي الشاب الشّافعي بابا، الملتزم بقضايا انعتاق المرأة في موريتانيا، إكمال تسجيل فيلمه الوثائقي الأول بعنوان: "الاستثناء: ثلاث نسوة، ثلاثة أجيال، حلم واحد".
ويفسّر الشافعي أهدافه ودوافعه قائلا:" لطالما سمعتُ الناس في أحياء العاصمة يتحدثون عن آمنة منت المختار بوصفها حليفة للشّيطان. الأمر الذي أثار فضولي وقادني للتعرّف عليها لاحقا. لقد اكتشفت فيها امرأة شجاعة وملتزمة ونشطة، تشبه نساء سكنّ طفولتي، كما تشبه كثيرا مكفولة وميّ اللّتين تعرّفتُ عليهما من خلال منشوراتهما على الفايسبوك".
ويتحسّرُ الشاب السينمائي على واقع المرأة الموريتانية إذ يقول :" في الماضي كانت النّساء الموريتانيات أكثر انفتاحا وجرأة وتقدّما. أمّا اليوم فإني أراهنّ بائسات ومرتبكات ومهمّشات وهو ما يُحزنني كثيرا. وبالتّالي أرغبُ عن طريق هذا الوثائقي تسليط الضوء على صورة المرأة التي أحلم بها في وطني إضافة إلى إزالة اللّبس والتّشويه المتعمّد ضدّ هذه الأيقونات".
وقد كشفت دراسة سوسيولوجية -فضل صاحبها عدم ذكر اسمه- أن موريتانيا الحديثة عرفت أربعة أجيال نسويّة:
الجيل الأول هو جيل الاستقلال الذي دَشّن بصمت وهدوء مسيرة الانعتاق من خلال المدرسة والولوج إلى العمل وتحمّل المسؤوليّة السّياسية؛
أمّا الجيل الثاني والذي تُمثله آمنة وهو جيل ظهر إبّان فترات الجفاف المتعاقبة (في السبعينيات) والذي برز في ظل تفكّــك البُنى الاجتماعية والاقتصادية التقليدية فأسّس، مستلهما من التيارات الثورية حينها (الثورة الثقافية الماوية وتيار شي غيفارا وأحداث مايو 68..)، رؤية للانعتاق قائمة على العمل السياسي،
بالنّسبة للجيل الثالث الذي تمثله مكفولة فإنّه وليد التّلاقي بين مزاج شخصي متحرّر و"مشاغب" ورؤية للعالم مبنية على الالتزام المدني بجميع تجليّاته في ظل التطور الكبير لمنظّمات المجتمع المدني،
الجيل الرابع الذي ترمز إليه المخرجة الشابّة ميّ فهو يعيش فيما يبدو صراع أجيال وينشد فكرة مطلقة للحرية.
وتحاول هذه المسارات الأربعة تمثيل النّساء الموريتانيّات اللّواتي يبقين مُتنوّعات في طرق نضالهن اليومي ضدّ أشكال التبعية المُسلّطة عليهنّ من خلال قوالب خفيّة ومُغلّفة بممارسات وديعة وسالبة للحريّة في آن واحد، هكذا خلصت الدراسة البحثية.