ففي موريتانيا التي يعيش فيها كثير من المواطنين تحت خط الفقر توجد مدارس نظامية تابعة للدولة تفتقر للكثير من الوسائل والتعليم فيها مجاني وأخرى مدارس حرة أو خاصة يمتلكها مستثمرون خصوصيون والتعليم فيها تجاري ويقدم مقابل رسوم قد لا يتاح للكثير من الآباء وأولياء التلاميذ تأمينها بشكل مستمر..أغلب الموريتانيين من ذوي الدخل المحدود و المتوسط و أحيانا الضعيف يفضلون إرسال أبنائهم إلى المدارس الحرة للتعلم لكن هناك من لا يقدرون على إرسال أبنائهم إلى المدارس الحرة و الخصوصية نظرا لضيق ذات اليد والفقر المدقع وهم الفقراء الذين يشكلون أكثر من نصف سكان البلاد، مما صنع تفاوتا وهوة بحسب مراقبين أصبحت لها الكلمة الحاسمة في تقرير المسار الدراسي للطفل الموريتاني وخاصة في المرحلتين الابتدائية و الثانوية ..هل سيدرس في مدرسة نظامية لا تتوفر على الوسائل والبنية التحتية المناسبة أم سيلجُ التعليم الخصوصي التجاري حيث الخدمات أحسن ولو نسبيا والرقابة مفعلة وإن كان هو الآخر يعاني من الكثير من النواقص؟؟ !
بعد لجوء الكثيرين في موريتانيا إلى خدمات التعليم الحر أصبحت المدارس النظامية خاوية إلا من أبناء الطبقات الهشة والفقيرة الذين لم يجد أولياؤهم بديلا عن هذه المدارس لاحتضان أبنائهم بسبب الفقر وهم الأكثرية.
أحمد ولد محمد مدير مدرسة ابتدائية نظامية بمقاطعة الرياض جنوب نواكشوط يقول:" في المقاطعات الفقيرة والنائية الواقعة على أطراف العاصمة تعاني المدارس النظامية والتلاميذ الذين يرتادونها وأغلبهم من أبناء الفقراء والطبقات الهشة من نقص المعلمين و دوام تغيب المدرسين، بالإضافة إلى نقص حاد وانعدام أحيانا في الوسائل والمعدات الدراسية، وكذا حاجة المدرسين للتكوين المستمر في المجال التربوي، كما نعاني من مشكلة عدم تعاون الآباء مع المدرسة نظرا لانشغالهم بتحصيل لقمة العيش وعدم متابعة المقررات الدراسية لأبنائهم في المنزل ،هذا إضافة إلى نقص حاد في المعلمين المؤهلين لتدريس اللغات وانسياق الأهل وراء رغبة الأبناء، مما يكرس النمطية ويفرض واقعا صعبا جعل الكثيرين ممن سمحت لهم إمكانياتهم المادية بإيجاد بديل بالعزوف عن تسجيل أبنائهم عندنا في المدارس النظامية التابعة للدولة وبقي لدينا فقط الكثير من أبناء الفقراء والطبقات الهشة و القليل القليل من أبناء الأسر المتوسطة الدخل ..نحن لا نبخل جهدا لكن هذه هي الحقيقة الموجعة".
أستاذ اللغة العربية الحسن ولد اخليفه يقول حول الموضوع " أغلب من يرتادون المدارس النظامية الموجودة في الأحياء الشعبية هم من أبناء الفقراء والطبقات الهشة الذين لم يجدوا ملجئا آخر ولا يمتلك آباؤهم دخلا يمكنهم من تغطية تكاليف الدراسة في المدارس الحرة التي يرتادها فقط من يقدرون على ذلك ماديا..الوضع في المدارس النظامية وخاصة الابتدائية منها والاعداية مزري،فأغلب الأساتذة و المعلمين من موظفي الدولة لا يذهبون إلى هذه المدارس إلا نادرا و يتغيبون دائما دون محاسبة ولا رقيب، فالقطاع تسوده الوساطة والمحسوبية والضحية دائما هم التلاميذ من أبناء الفقراء والذين لا يجدون بديلا عن هذه المدارس، وتزداد مظاهر التسيب والفوضى في المدارس النظامية التي توجد في أطراف المدن والأحياء الشعبية حيث الكثافة السكانية الكبيرة".
ويضيف الأستاذ الحسن "عايشت هذا الواقع منذ خمس سنوات كمدرس وقبل ذلك كطالب..التعليم النظامي والمدارس التابعة له تعاني التسيب والفوضى وغياب إستراتيجية طويلة الأمد فالمناهج الدراسية تتغير مع وصول كل نظام إلى الحكم وبشكل عشوائي وغير مدروس".
من جهتها تقول المعلمة لمات محمد محمود وهي تٌدرس في المدارس النظامية منذ 18 سنة " تعاني هذه المدارس من التسيب و عدم توفر البنية التحتية إضافة إلى اعفاء بعض المعلمين من مهامهم عن طريق الوساطة و المحسوبية والضحية دائما هم التلاميذ من أبناء الفقراء الذين يشكلون غالبية من ندرسهم هنا ..أعتقد أن كل هذه العوامل معا فرضت واقعا مريرا لن يصبر عليه إلا من لم يجدوا بديلا عنه..هنا تحدث بشكل متكرر عمليات إجرامية لم يسلم منها التلاميذ ولا المعلمون وقبل فترة من الآن حدثت جريمة اغتصاب بحق تلميذة كانت في أحد الفصول وخرجت بعد أن استأذنت المعلم ليتفاجأ الجميع باغتصابها بسبب غياب الرقابة و الأمن في المدارس النظامية..نحن نتعرض باستمرار للاعتداء أثناء ممارسة عملنا والكثير من التلاميذ يدخنون ويتغيبون عن الدروس، والضحية في النهاية هم أبناء الفقراء ممن لم يجدوا بديلا عن هذه البيئة".
أما الأستاذ محمد عبد الله عبد الوهاب الذي يدرس مادة التاريخ فيرى أن أغلب الموريتانيين لا يثقون في التعليم النظامي لكن الفقراء لا يجدون بديلا عنه فيضطرون لتدريس أبنائهم في المدارس التابعة للدولة ويوضح ذلك قائلا " منذ عام 2002 بدأت خصخصة التعليم نظرا لطابع الفوضوية والتسيب الذي يشهده التعليم النظامي إلا أن هذه الخطوة لم يستفد منها التلاميذ أبناء الطبقات الهشة والسبب يعود للظروف الاقتصادية الصعبة لأوليائهم وبالتالي المدارس النظامية صارت حكرا على أبناء الطبقات الهشة حيث تنتشر المخاطر والسلوكيات الضارة والاكتظاظ فتجد ما بين 80 و 140 تلميذا يدرسون في فصل واحد ،وقد لاحظت أن أغلب من يرتادون المدارس النظامية هم من أبناء لحراطين و الزنوج الذين يعانون الفقر".
و يضيف أستاذ التاريخ محمد عبد الله"الجريمة منتشرة في المدارس النظامية بسبب غياب الرقابة والارشاد.. ونظرا لهذا الواقع المقلق أٌصر دائما على اصطحاب سكين في جيبي لكي أدافع به عن نفسي في حالة الضرورة، فالتلاميذ هنا دائما ما يعتدون على الأساتذة في بيئة حاضنة للجريمة والانحراف"
ويعتبر محمد عبد الله أن الظروف الاقتصادية الصعبة لأولياء التلاميذ من أبناء الفقراء وسهولة الولوج إلى هذه المدارس إضافة إلى عدم وجود مدارس خاصة في بعض المناطق النائية هي من الأسباب التي تجعل المدارس النظامية تعرف اكتظاظا و ينتشر فيها التسيب و الفوضى.
من جهة أخرى فان لأصحاب المدارس الحرة رأي آخر. يقول مدير مجمع مدارس المواهب الجديدة الحرة في نواكشوط سيداتي ولد شيخنا "نحن في المدارس الحرة نوفر بيئة حاضنة و آمنة للتلاميذ على عكس ما يحدث في المدارس النظامية حيث الفوضى و التسيب، فالكثير من الآباء يأتون إلينا بأبنائهم من المدارس النظامية لنحميهم من الشارع والانحراف والجريمة، فالمدارس النظامية لم تعد آمنة وخاصة بالنسبة للبنات، ونأسف لهذا الواقع الذي تتحمل مسؤوليته الدولة وفي سبيل مساعدة أبناء الطبقات الهشة والفقيرة ومساعدتهم في الاستفادة والولوج إلى المدارس الحرة حيث ظروف الدراسة أحسن والرقابة مفعلة.. في سبيل كل ذلك قمنا بمنح تخفيضات على رسوم التسجيل للطلاب من أبناء الفقراء والطبقات الهشة، كما نُدرس بعضهم مجانا ".
وعن اتهام البعض للمدارس الحرة باستقطاب المعلمين التابعين للدولة وترك أبناء الفقراء في المدارس النظامية دون مدرسين مؤهلين يرد مدير مجمع مدارس المواهب الجديدة الحرة سيداتي قائلا:"نحن لا نعيق المعلم الذي يعمل للدولة عن العمل وأداء واجبه في المدارس الحكومية بل على العكس نحترم ذلك ونشتري فقط من عند المعلم الفائض من وقته ليقدمه لنا في مدارسنا الحرة، هذا إضافة إلى الرقابة وتوفير الظروف المناسبة لمن سمحت لهم الظروف الاقتصادية بتسجيل أبنائهم لدينا ونحن لا نتحمل مسؤولية هذا الواقع الفوضوي فالدولة وحدها من يتحمل المسؤولية".