"سور فقط، هذا ما يفصلني عن تحقيق حلمي" بهذه العبارة البسيطة وبنبرة حزينة، لخص المهاجر الليبري "فيليكس أ" طموحه المتمثل في عبور الحاجز المتواجد بمنطقة سبتة البعيدة نحو 300 كيلومتر عن العاصمة الرباط (أقصى شمال المغرب) والذي يفصل بين كل من التراب المغربي والمناطق الخاضعة للحكم الإسباني بشمال المملكة. وهو الحل الأخير الذي وجده المهاجرون القادمون من جنوب الصحراء أمامهم، بعدما أصبحت الهجرة بالقوارب وخوض غمار البحر المتوسط أشبه بالانتحار.
يبحث المهاجرون الافارقة، ممن اضطرتهم ظروف الحياة للتخلي عن بلدانهم الاصلية عن أمكنة جديدة يلجؤون اليها هربا من مربع الفقر والعوز والحرمان والبؤس يحملون معهم حلما واملا عنوانه معالم حياة أخرى في بلد جديد.
وتبقى مسالة الاندماج والمقبولية الاجتماعية من أكبر هموم المهاجرين بمجرد بلوغهم وجهتهم الجديدة، فالمهاجر يبحث عن اكتشاف محيطه ومعرفة مآلات وضعه في الواقع الجديد وهو الى ذلك بين خيارين اما ان يقبل به كعضو في المجتمع الذي أصبح منه او يبقى رهين نظرة دونية لا ترى فيه الا غريبا ومواطنا من درجة ثانية.
"المحطات التي تفصل بين اتخاذ الشخص لقرار ما والوصول إليه هي قطع من العذاب قد تنتهي بتحقيق المبتغى أو بالعودة إلى نقطة الصفر، والأمر ذاته ينطبق على رحلتي إلى أوروبا عبر المغرب"، هكذا عبر المواطن الكاميروني "كولو " عن المعاناة التي عاشها في طريقه إلى "الجنة الأوروبية" التي سمع عنها كثيرا وشاهد جزء منها في الصور التي ينشرها البعض من أبناء بلدته على صفحاتهم في مواقع التواصل الإجتماعي.
جاءت بنا الاقدار على ارض لم نخترها بل هي اختارتنا، نحب أرضنا و لا شيء يضاهي هذا الحب المقدس، لا شيء يجبر الانسان على الهروب سوى الخوف الذي بات يهدد حياة الفرد، فقر، جوع، مجاعة، اوبئة، اغتصاب، وحروب لا تنتهي كلها مآسي تعيشها بلدان القارة السوداء فيكون خيار اهلها هو الرحيل.
حين يتحدث المجتمع عن ظاهرة "قوارب الموت" التي تسحب أرجل أبنائنا كل يوم إلى بطون الحوت أو تزهق أرواحهم غرقا، يتناول قصص شباب عاشوا التجربة ونفذوا منها سالمين، أو جثثا لفظها البحر مشوهة..."أصوات الكثبان" يزور اليوم أكثر الأصوات المطمورة و الموجوعة من التجربة .. إنه صوت الأم، المنتظرة، المترقبة، المفتتة الكبد، إما بخبر ضياع عمر إبنها نتيجة انبهاره بأضواء ما وراء البحار، أو خلال انتظارها لخبر يفيد نجاته، لمدة قد تصل أحيانا إلى شهور متواصلة من الانتظار المدمر ..
المدينة الوحيدة في إفريقيا التي يلتقي عندها المتوسط بالأطلسي هي طنجة، فإفريقيا تبدأ في طنجة وعند أقدامها تنتهي اليابسة لتبدأ من جديد في قارة أخرى في مسافة يقطعها الطير في أقل من ساعة. هي ابنة الأسطورة الإغريقية التي جعلت إلهين هما أطلس وهرقل يتصارعان أبدا وسرمدا. هي الأرض التي رست عندها سفينة نوح بعدما ضاعت في البحر عقب الطوفان الكبير، جاء الطير يحمل طينا في منقاره، فصاح الناجون "طين، جاء"، فولد اسم طنجة من مزج كلمتين تحملان أملا بحياة جديدة بعد الطوفان.
الساعة تشير إلى الثالثة مساءا. المكان باب الحد بالرباط. سلاسل بشرية ممتدة على طول شارع محمد الخامس إلى ساحة باب الحد، صراخ الباعة المتجولين يملأ المكان، هناك كذلك شباب لا تخطئهم العين، وجوه شاحبة يملأها الاسى والحزن والحسرة، مهاجرو دول جنوب الصحراء الهاربون من ويلات الفقر والبطالة و تبعات الحروب الأهلية في بلدانهم.
من يصدق أن ثمة تقنية قديمة لبيع الكتب والمخطوطات (ضمنها جزء قادم من مالي وموريتانيا والنيجر)، بالمزاد العلني في فناء مسجد عتيق بمراكش، ثاني أقدم العواصم الإمبراطورية بالمغرب؟. بل إن الأمر مستمر منذ أكثر من 600 سنة بلا انقطاع، بعد صلاة العصر من يوم كل جمعة. والجديد، خلال السنوات الأخيرة، هو بروز تجار جدد للمخطوطات لم يكن يسجلهم ذلك الفضاء المراكشي من قبل، هم المهاجرون الأفارقة من جنوب الصحراء، الذين ليس فقط أنهم يندمجون في الفضاء الديني للمساجد العتيقة بالمدينة التي بناها المرابطون سنة 1062 ميلادية، بهندسة واختيار من زوجة زعيمهم يوسف ابن تاشفين، زينب إسحاق النفزاوية (بالتالي فهي مدينة هندستها واختارت موقعها امرأة). ليس ذلك فقط، بل إنهم أصبحوا جزء من تجارة كتب قديمة ومخطوطات يتم تهريبها من عمق المدارس والزوايا العتيقة بدول الساحل. وهو الأمر الذي تضاعف، منذ بداية العمليات المسلحة للمجموعات الدينية المتطرفة بمالي والنيجر ونيجيريا، بسبب استهداف تلك الجماعات السلفية المتشددة لكل المخطوطات القديمة وشرعت في حرقها وتدمير الزوايا التي كانت تضمها.
خائفون، يلوحون لكل سيارة مارقة بالطريق المؤدي إلى مدينة سبتة، أمنيتهم الوحيدة أن تتوقف أو ان يرق قلب سائقها لحالهم، لكن لا أحد من هؤلاء يجرؤ على ذلك، فالطريق غابوية وخالية، و رغم فشل المهاجرين السرين الأفارقة في اقناع العابرين بمساعدتهم إلا أنهم لا يملون من تكرار محاولاتهم، هي عزيمة اليائس الذي لم يعد له إلا الأمل يتمسك بتلابيبه،فلا يكل ولا يمل من أية محاولة.
كنت التقيته من قبل، قرب محطة القطار "الدارالبيضاء المسافرين"، وحين تقدم مني والمطر يهطل خفيفا في ذلك المساء القارس بالرباط، كانت ملامحه قد تغيرت قليلا. صار أكثر نحافة، لكن ثيابه الصوفية أكثر نظافة، مقارنة مع لباسه الخفيف الذي التقيته به منذ شهور بالدارالبيضاء. الشئ الوحيد الذي لم يتغير فيه: طريقته المؤدبة في طلب المساعدة بالدارجة المغربية. قلت له، بالإنجليزية: "كيف حالك فابيان؟". تراجع قليلا إلى الوراء، وأنهى انحناءة صغيرة لكتفيه، وفي عينيه برز بريق تفاجئ وشك وحيرة. أدركت أنه لم يتذكرني، فلست سوى واحدا من المئات الذين يطلب منهم المساعدة قرب محطات القطار يوميا.
أصوات الكثبان هو مشروع معهد التنوع الإعلامي (MDI). يوفّر أصوات الكثبان تغطية شاملة وموثوق بها من عمق الصحراء حول النّزاعات والأمن و المرأة ، والشباب والعنف الاتني و الأقليات الدينية ، وغيرها من الإشكاليّات الشّبيهة، وذلك عبر ريبورتاجات تبلغ صوت الفئات المهمشة و السكان العاديين في الصحراء ، المنسيّين من قبل وسائل الإعلام التّقليدية .
لزيارة الموقع media-diversity.org