على مر السنين ظلت طنجة تحمل ذلك الأمل المتجدد الذي يجذب الناس من كل بقاع الأرض؛ فهي "مدينة الحلم"، كما وصفها الكاتب الأمريكي بول بولز صاحب رائعة "شاي في الصحراء" الذي جاء إليها باحثا عن إبداع يروم تفجيره على أرضها، وبأرضها قرر أن ينام نومته الأبدية. وكذلك الشأن بالنسبة لكاتب آخر هو جون جنييه. فيما فر إليها الروائي الإسباني خوان غويتصولو، هاربا من مشانق الجنرال فرانكو. وعند مينائها كان يقف للنظر إلى الجبال الأندلسية القريبة ويتحسر..
وهجر إليها محمد شكري وعائلته من ريف المغرب لسبب بسيط، لخصه في أول جملة في روايته الخبز الحافي: "بطنجة الناس يؤكلون ثلاث مرات في اليوم". مصمم الأزياء الشهير إيف سان لوران اشترى بيتا في مرتفع "الجبل الكبير"، ليشهد كل صباح لقاء المتوسط بالمحيط. فطنجة "جنة المبدعين"، وهي حاضنة كل الجراح المنفتحة وبلسمها الشافي، تلعقها بحنان دافق، وتنسي كل قادم إليها مأساته، دافعة إياه ليعيش ملهاتها الخاصة.
بجوار كؤوس الشاي المنعنع بمقهى "الحافة"، جلس كل المبدعين يوما. كلهم مروا من المقهى "الحافة" البسيط والهادئ؛ آخر المقاهي الإفريقية شمالا، بدءا من بول بولز وتينيسي وليامز وفرقة "البيتلز" الإنجليزية خلال أيام مجدها الغابر، على غرار مجموعة "الرولينغ ستون" والممثل الأمريكي "شون كونوري"، رياح الغرب هبت وقتها على إفريقيا، فرقصت كل الأجساد على ايقاع واحد تضبطه طنجة.
الكاتب عبد السلام القادري، الذي نقب كثيرا في عوالم كتاب عالميين عشقوا طنجة يقول: "العديد من الكتاب مروا من طنجة؛ أشهرهم وليام بوهاوس وترومان كابوت. كانت الوضعية الدولية للمدينة تساعدهم على ذلك، بحكم تعدد الجنسيات التي تعيش بطنجة وتوفرها على كل شيء يحتاجونه للحياة والكتابة. فبالنسبة لبول بولز، كل شيء يوجد في طنجة. ولم يقتصر الأمر على الكتاب الغربيين؛ بل شمل أيضا بعض الكتاب الأفارقة الذين مروا من المدينة أشهرهم آلان مابنكو و هوجبيه أوبودي. لكن لقاء الكتاب الأفارقة بطنجة كان أكثر بروزا خلال معرض الكتاب بالمدينة شهر ماي 2014".
رغم مرور السنين ما زالت طنجة تلهم المبدعين، آخرهم شمالا كان الصحافي الإسباني خابيير بالنثويلا الذي أقام في المدينة 9 أشهر كاملة ليكتب آخر رواياته بعنوانTangerina ، أو "ابنة طنجة" التي صدرت الشهر الماضي بإسبانيا. وعن ملهمته طنجة يقول الكاتب: "طنجة هي المكان المثالي لكتابة الرواية، أجدها امتدادا لإقليم الأندلس وإن كانت مدينة إفريقية بلا منازع. إنها مدينة منفتحة ومقترفة للذنوب. عرفت المدينة خلال زياراتي المتكررة إليها للعمل أو الاستجمام، وبمجرد تقاعدي من صحيفة "إيل باييس" فكرت في كتابة رواية، فقفزت طنجة إلى ذهني فورا؛ لأنها مكان مثالي لأحداث روايتي، ولأن أوروبا كلها عاشت في مدينة إفريقية واحدة هي طنجة".
آخر العرب المبدعين كان الشاعر العراقي يوسف السعدي الذي أصدر قبل عامين "ديوان طنجة"؛ ديوان بيع مثل رغيف الخبز الساخن لما يختزنه من صور شعرية ويضج به من أحاسيس فواحة. ومن بعض عطره الشعري قال في قصيدة من ديوانه عنوانها أيضا "طنجة":
أجلسُ في المقهى
مقهى القدّيسةِ باولا
Cafe' Santa Paola
منذ الصّبحِ الباكرِ أجلسُ في المقهى :
طنجةُ تستيقظُ .
لستُ أنا مَن يُوقِظُ طنجــةَ ...
مَن قالَ : الـحُـلـمُ ينام ؟
اغتنم الشاعر العراقي قصائده خلال معركة اكتشاف طنجة وإطالة النظر إلى نوارسها المحلقة في سماء مضيق جبل طارق، واقتنص مشاعره من ابتسامات العابرين في كل الأرجاء.
وبعد موجة المبدعين الحالمين، قصد طنجةَ حالمون من طينة أخرى هم مهاجرون من أبناء القارة السمراء. جاؤوها يبحثون في شواطئها عن الخلاص من أنياب الحروب و مخالب المجاعات، يحمل كل واحد منهم بدواخله ألف قصة ورواية. وبعدما طال بهم الحلم، تخلى كثيرون منهم عن حلم الهجرة إلى الضفة الأخرى، وغذت طنجة حقيقتهم المحسوسة التي عوضتهم عن حلم جامح.