وعلى الرغم من كثرة حالات إحراق الذات في صفوف النساء في السنوات الأخيرة بغض النظر إلى الأسباب التي تدفعهن إلى ذلك، إلا أن قضية "أمي فتيحة" التي تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي شريطا يوثق لحظات إضرام النار في جسدها بعد إحساسها ب"الحكرة" (الإهانة) جراء إقدام رجل سلطة بالقنيطرة (غرب المغرب) على حجز بضاعتها من رغيف "البغرير" ووجه صفعات لها.
وبعد وفاة ما بات يطلق عليها بـ "شهيدة الكرامة"، ولم تترك لها ألسنة اللهب التي التهمت جسدها أي فرصة للعيش، متأثرة بجروح بليغة، نظم مواطنون مسيرات احتجاجية بمختلف المدن المغربية، ونددوا بما تعرضت له البائعة البائسة، كما طالبوا بمحاكمة المسؤول الذي كان وراء ذلك الحدث الفظيع.
حكاية "أمي فتيحة" التي شكلت من بين الحالات الأكثر تضامنا من قبل الرأي العام بالمغرب، لم يمر بعدها سوى شهرين فقط حتى ظهرت حالة جديدة، كانت ضحيتها هذه المرة فتاة قاصر تدعى "خديجة السويدي"، من مدينة بن جرير (وسط المغرب)، التي أقدمت هي الأخرى على إحراق جسدها في 29 يونيو الماضي، بعدما تعرضت لاغتصاب جماعي، وتلقيها تهديدات بنشر الفيديو الذي كان يوثق لحظات الاغتصاب.
حالة "السويدي" 17 عاما، التي وضعت حدا لحياتها، بعدما ساءت حالتها النفسية، ولم تتحمل انتشار فيديو يوثق اغتصابها من قبل ثمانية أشخاص، وهي القضية التي لقيت تضامنا واسعا من قبل الجمعيات النسائية والحقوقية ومختلف الفاعلين بالمغرب.
وأسفر فتح تحقيق حول القضية عن إدانة ثمانية أشخاص، حكمت النيابة العامة على أحدهم بثمانية أشهر حبسا نافذا، في حين تم القبض على الآخرين ومتابعتهم في حالة اعتقال، بعدما أثبتت نتائج التحقيق عن وجود قرائن تؤكد أن المتهمين هددوا الضحية بنشر صورها على الانترنت في حال رفضها التنازل عن القضية.
عمر أربيب، رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان (فرع منارة مراكش)، اعتبر أن إحراق الذات كطريقة للاحتجاج "لا ينبع إلا من خلال الإحساس بالتهميش وامتهان الكرامة الإنسانية، ومن خلال تنكر الدولة للاهتمام بالمطالب الاجتماعية للمواطنين، وكذلك بسبب عدم توفير أبسط متطلبات العيش الكريم".
وأضاف أربيب الذي كان يتابع قضية "خديجة السويدي" في تصريح صحافي قائلا: "ما وقع للفتاة القاصر، هو محصلة لإنكار العدالة واستمرار عدم المتابعة العقابية لجرائم الاغتصاب"، موضحا أن ضحية الاغتصاب التي أحرقت ذاتها "يتيمة الأب، اضطرت إلى مغادرة منزل أمها في سن الرابعة عشرة من العمر، كي تعيل أسرتها الفقيرة، وما وقع لها دليل قاطع على انتهاك حقوق الطفل، وغياب سياسة عمومية في الدولة لضمان حق العديد من الأطفال في التمدرس والحماية من الاستغلال الاقتصادي والجنسي".
وفي تعليقها عن الظاهرة التي أصبحت تثير الهلع بالمغرب، قالت سعيدة عميري، أستاذة علم النفس بجامعة محمد الخامس، إن الشخص لا يُقدم على حرق ذاته، إلا في حالة وصوله إلى معاناة نفسية غير قابلة للتحمل، ويأتي "تعبيرا عن غضب شديد مصحوب بحالة إرهاق نفسية شديدة بسخط اجتماعي، وفي حالة الاكتئاب والفشل في الحياة، أو من خلال الإحساس بالاضطهاد الاقتصادي أو الاجتماعي...".
وأضافت في تصريح صحافي، أن المُقدم على الانتحار حرقا سواء كان امرأة أو رجلا، "ما يهمه هو أن يتم على مرأى ومسمع من الناس، ويريد من وراء ذلك أن يوجه رسائل قوية للمجتمع السياسي، ورغبة منه في إثارة انتباه الآخرين، بخلاف الأشخاص الذين يلجؤون إلى الانتحار في المنزل شنقا أو عبر تناول بعض السموم القاتلة، دون أن يترك انتحارهم أي أثر يذكر".
وذكرت أن إحراق الذات بالمغرب يتم بواسطة البنزين، مما يعني أن صب هذه المادة على جسد المنتحر تضمن الموت المؤكد، وهذا فيه إشارة إلى أن المعني يريد أن يضع حدا لحياته، "لأنه لا أحد يقبل نفسيا التشويهات التي تنجم عن آثار الحرق في الجسد"، على حد تعبير المتحدثة.
وعلاوة على ذلك، فإحراق الجسد، حسب عميري، "فيه نوع من التضحية والتأكيد بأنه نوع من الإصرار السلبي بأن يقدم المنتحر نفسه قربانا للآخرين"، مؤكدة أن هذا النوع من الأشخاص "يحضر لديهم ما يسمى بالتمسرح الدرامي، ويعيشون نوعا من الهشاشة النفسية، ويرفضون الحياة بصفة نهائية".
وبدوره اعتبر رشيد الجرموني، أستاذ علم الاجتماع، في تصريح صحافي، بأن الظاهرة ما هي إلا "تعبير صريح عن احتقان اجتماعي له مسببات موضوعية تدفع مواطنين للتعبير عنها عبر حرق ذواتهم أحياء".
وقال إن هذه الطرق التي يقدم عليها هؤلاء الأشخاص تعد "أقوى صورة لإيصال صوتهم الذي لم يسمع، والطريقة الأقسى للتعبير عن الاحتجاج، ولعلها صوت للتعبير عن إدانة اللامساواة والقمع الذي يتعرضون له"، دون أن ينفي أن هناك حالات تفعل ذلك لأسباب شخصية.
وأشار الجرموني، إلى أن تلك الطرق القاسية من الاحتجاج، "أصبحت تلقى مساندة اجتماعية على الرغم من تنافيها مع معتقدات المغاربة ودينهم، إلا أنها أصبحت في نظرهم الطريقة المثلى التي ستخلصهم من حياة قاسية وتلفت في الوقت ذاته انتباه المسؤولين لمعاناتهم".