بمدينة العيون عاصمة الصحراء كما يطلق عليها ساكنتها، تنقسم القبائل بين راغبة في تزويج بناتها بأي رجل و كل رجل، شرط أن يكون على خلق و دين، و القبائل الأخرى التي تصر على أن يكون العريس من شباب القبيلة حتى و إن لم يملك رغيف العيش... يكفي أنه ابن فلان ابن فلان، امتدادا لشجرة القبيلة التي تكون من القبائل المصنفة شريفة غالبا ! أما البنت فهي إما بين العانس التي لم يقبل عليها ابن العم و مر قطار الحياة؛ و بين التي تزوجت من ابن عم و أجهضت حبا لرجل مُنعت منه فقط لانه من خارج القبيلة، و بين من عزفت عن الزواج لأن من بالقبيلة لا يتناسب مع أحلامها كامرأة وعت مرارة الواقع وتيقنت من استحالة الوفاق.
"ل.ج" سيدة مطلقة، تبلغ من العمر 40 سنة، عيناها ذابلتان، تحمل بين شفتيها ضحكة تعيسة، رغم أنها لا تغادر وجهها في محاولة للتعبير عن الفرح الدائم، إلا أنها تشي بوجع لا تفصح عنه الدموع ! تقول: " بعائلتي لا نتزوج إلا من أبناء عمومتنا، و هذا أمر جيد، أجل .. لا تنظروا إليه كونه عنصرية اتجاه الآخرين أو تزمتا.. رغم أني لم أتزوج قبل عمر 35، و رغم أن من أحببته من أبناء عمي تزوج شقيقتي.. إلا أنني أدعم زواج العمومة و سأربي إبني البالغ من العمر 5 سنين على ان يعي أن 'بنت عمه ..سرواله' (بمعنى أن إبنة العم هي ستر للزوج، و لن تجرأ يوما على فضحه أو التقليل من شأنه)..."
زواج السيدة "ل" جاء بناء على اتفاق بين مجموعة من أفراد القبيلة حتى تحصل على مولود يعينها على الكبر، فجاء "المتبرع" وأنجز المهمة، وطلق بعد الحمل !
إن المتعايش مع وضع ما، لا يفقه مدى سوئه و إجحافه إلا بعد الخروج منه.... " ع.ن" مثقفة و فاعلة في المجتمع، تمردت على واقع قبيلتها بعد عودتها من الدراسة بفرنسا، و تزوجت بمنحدر من شمال المغرب دون موافقة الأهل أو حضورهم، بعد أن تقدم لخطبتها و رفضوا...
تقول بعد زفرة طويلة تحمل الكثير من الألم: " كان هذا منذ 12سنة.. أذكر كيف رماني أبي –رحمة الله عليه- خارج المنزل، و كيف حاول إخوتي الاعتداء علي .. (تترقرق عيناها بالدموع) .. كنت فتاة طائشة، مفعمة بالعشق، متمردة على قوانين القبيلة.. لم أتمرد يوما على أبي، ولا كنت شقيقة سيئة، لكنني في أعماقي كنت أعلم أنهم أيضا سئموا القبيلة و عاهاتها... ظننت أن أبي –الذي ورثت عنه التمرد- سيخاصمني لأيام، ثم ينتصر لي كما كان يفعل دوما، كنت أظنه معجبا بجرأتي، وغضبه مني كبح لسوء رد فعل القبيلة فقط... و طال الخصام، سنة وراء سنة، لم يرضى الوالد أن يراني أو يقبل أطفالي إلا و هو على فراش الموت... (تنخرط في بكاء طويل و تكمل)، سبع سنين من الفراق البائس الكئيب أعقبها فراق الموت الذي لا مفر منه، كل هذا من أجل القبيلة... لا شيء اليوم يعوضني فقد أبي !"
و لأجل الوقوف على تفاصيل و حيثيات "زواج اللحمة"، ربطنا الاتصال بالسيد "علي الشعباني" و هو أستاذ باحث في علم الاجتماع، الذي برر اقتصار القبائل بالصحراء على تزويج بناتها من أبناء عمومتهن فقط، بتاريخ المجتمعات العربية القديمة، حيث كان الزواج ينقسم إلى زواج خارجي و آخر داخلي. و وضح الأستاذ الباحث أن إنسان المجتمعات القديمة لم يكن يعي خطورة التزاوج الداخلي، الذي برزت مشاكله وانعكاساته الصحية على النسل نتيجة بحوث الطب الحديث و تطور علم الجينات. هذا الاكتشاف الطبي حرك المجتمعات ضد هذا النوع من الزيجات، إلا أنه استمر ببعضها، نظرا لرابط اللحمة الدموية التي تحافظ عليها أو المصالح الاقتصادية التي تستدعي عدم السماح بدخول الغريب مجتمع العشيرة، رغم أن الكثير من الزيجات الداخلية تنتهي بالطلاق و الخصومة، و رغم ظهور أمثال شعبية تحرض على الزواج من خارج القبيلة كالمثل القائل: "بَـــعَّدْ من دمك لا يطلِيك" بمعنى: إبتعد عن أبناء عمك، حتى لا تصاب منه بلطخة يصعب محوها، أو خصومة ممتدة إلى منتهى الزمن.
و يضيف الأستاذ الباحث في علم الإجتماع السيد "علي الشعباني"، أن المجتمع الصحراوي يشابه مجتمعات أخرى في شمال و شرق المغرب، و خارج المغرب، لا زالت تحافظ على الزيجات الداخلية، و بقيت منغلقة لا تسمح لقيم جديدة و حضارات حديثة أن تخترقها. و أعطى مثالا "بالأراضي السلالية" بالمغرب، حيث تعمد القبيلة، توريث الذكور دون الإناث حفاظا على أراضيها، فتحرم المرأة من الإرث بالرغم من الشوط الكبير الذي قطعته الدولة في مجال الحقوق و الحريات، مما يدل على السطوة التي تحظى بها القبيلة في مقابل قوانين البلد.