ويشكل انتاج مادة صحفية حول هذه الفئة وحول مكانتها داخل هذه المنطقة مغامرة لا تخلو من تحديات. انه اقتحام لموضوع يثير الكثير من الحساسيات. وهو موضوع يدخل في إطار الطابوهات والمسكوت عنه، داخل بنية اجتماعية وثقافية تحكم بعض الصحراويين "البيضان" وكأنها بنية ترفض التخلص من إرث التمايز الطبقي.
فمن خلال الزيارة التي قمنا بها للمدن الصحراوية بالساقية الحمراء (بوجدور، العيون)، بالاستعانة بأحد الباحثين المنحدرين من هذه المنطقة، تأكد لنا أن هناك جوانب مضيئة وأخرى مظلمة في حياة هذه الفئة الاجتماعية.
أحد "لمعلمين" المستقرين بمدينة العيون، خمسيني، أب لأربعة أبناء، آثار الشقاء والكِبَر بادية على محيّاه، يعمل في ورشة متواضعة لا تتجاوز ثمانية أمتار مربع على أكبر تقدير، تحيط به من كل جانب أدوات عمله البسيطة وما صنعت يداه بإتقان، لم يقبل استقبالنا إلا على مضض. يُلخّص معاناته بنبرة متحسّرة ومنفعلة: "تغيَّرَ كل شيء.. المدخول لم يعد يُلبِّي متطلبات الحياة.. إنّني أُحِسّ أحيانا أَني بدون عمل ومُفلس.. طلبات الزبائن أصبحت قليلة خلال السنوات الأخيرة، وحاجيات الأبناء أصبحت كثيرة وقد أصبحوا غير متحمسين لهذه الحِرفة.. والإشاعات لا ترحم..".
إن هذا الصوت هو نموذج للهشاشة الاجتماعية التي أضحت تعيشها فئة "المعلمين" و"المعلمات"، رغم أنهم أدَّوْا أدورا هامة في حياة "المجتمع البيضاني" زمن الترحال ولازالوا يؤدونه في زمن الاستقرار ولو بشكل متفاوت، دون أن يحظوا بالاعتبار الذي يستحقوه، حيث تُعَبِّر منتوجاتهم الحرفية عن عمق ثقافة البدو الرُّحّل الذين أضحى صوتهم خافتا يعكس صوت ثقافة الأقليات.
ففي حوار مطول مع د.صلاح الدين اركيبي[باحث سوسيولوجي مهتم بالتراث الصحراوي]، صنف الباحث منطقة الساقية الحمراء ضمن المناطق الأكثر دينامية وحيوية في مجال الحرف التقليدية بجنوب المغرب، واعتبر أن »حضور هذه المجموعة الحرفية يتعدى مجالا جغرافيا أوسع يعرف محليا بتسمية "تْرابْ الْبٍيظَانْ"، وأكاديميا ب"بلاد البيضان"[le pays maure]، الذي يضم إلى جانب الأقاليم الجنوبية للمغرب الجنوب الغربي للجزائر وأجزاء واسعة من موريتانيا، ثم بعض مناطق انتشار بطون قبيلة البرابيش بدولة مالي، فضلا عن أماكن مختلفة متاخمة لهذه الرقعة الجغرافية الواسعة والتي كانت تدخل من الناحية التاريخية ضمن مجالات نجعة القبائل البيضانية بحكم أن غالبيتهم كانوا من الرعاة الرّحّل«؛ واختصر تعريف هذا المجال بأنه "مجال انتشار الناطقين بالحسّانية"؛ ودعا في المقابل إلى ضرورة تثمين المنتوجات الحرفية الصحراوية وإعادة الاعتبار للعاملين في هذا المجال.
إن تسميتهم بهذا الاسم "لمعلمين" لم تعد تعني فقط "الصناع التقليدين" بل أصبحت كذلك تحمل مضامين سلبية، و"ربما يكونون أكثر فئات المجتمع الصحراوي تعاسة" في نظر البعض، وعلى الرغم من اسهامات "لمعلمين" الهامة في مجال الحرف التقليدية والخدمات الاجتماعية (الوساطة، التشاور، حل الخلافات...) إلا أنهم أكثر انغلاقا داخل هذا المجتمع ولازالوا يحتلون أسفل السلم الاجتماعي، في رأي د.اركيبي؛ مضيفا: "إن المكانة الاجتماعية هنا لا تتحدد بالمردودية أو التخصص ولا حتى بالمستوى الاقتصادي فحسب، وإنما تتحدد أيضا بالأصول السّلالية".
لذلك يرفض "لمعلمين" بعض الاشاعات مثل تلك التي تَنسُبهم إلى أصول يهودية، ويعتبرون أنفسهم جزءا لا يتجزأ من المجتمع الصحراوي وأصولهم من أصول فئاته؛ وحول ذلك يقول "د.اركيبي":» في تقديرنا، إن الصور النمطية المرتبطة ب"لمعلمين" مليئة بالإيحاءات والمعاني السلبية..، إن نعت "لمعلمين" باليهودية جاء نتيجة للتصورات النمطية والسطحية التي تربط الأصل الجنيالوجي بمهنة الفرد أو الجماعة، وبشكل أخص ممارسة مهنة الصيّاغة التي تستند على فكرة احتكار اليهود لها في المغرب والجزائر وتونس واليمن، وأيضا داخل مجتمع "الولوف" و المجتمع الطوارقي الذين ينسبون حداديهم (يشتغلون بالصيّاغة) إلى اليهود.
وأضاف المتحدث نفسه: »إنّ هذه الفكرة النمطية حول الأصول اليهودية "للمعلمين" قد تبناها بعض الفقهاء سابقا كما حاولوا إثباتها، خصوصا في موريتانيا، حيث أخرجوا فتاوٍ متشددة لا تستند على أسس صحيحة من الناحية الشرعية بل تتناقض مع تعاليم الإسلام السمحة ومع مبادئه، ففي قبيلة الترارْزَة وتشَمْشَة بموريتانيا مثلا يُمنع على "لمعلم" ممارسة التعليم (التدريس) أو الحصول على الزكاة أو أن يؤُمّ الناس في الصلاة، كما أخرج بعضهم فتوى ترفض شهادة "لمعلم" وتقر بعدم جواز الصلاة وراءه بدعوى اشتهاره بالكذب وأصله اليهودي«.
إن الملاحظات السابقة لا تلغي أن هناك إجماع داخل هذا المجتمع مفاده أنه لا غنى عن "لمعلمين" و"لمعلمات" في كل المناسبات الهامة والتي على رأسها حفلات الزواج..
"لا يمكن تصور حفل زفاف صحراوي ناجح بدونهم"، يقول أحد سكان مدينة بوجدور، مؤكدا: "إنهم مرحون ويخلقون أجواء المرح، إنّهُم أفضل من يمكنه إدارة العرس وجلسات الشاي وهُم الذين يتكلفون كذلك بإعداد خيام الاستقبال وتزيين العروس". فحسب عادات وتقاليد منطقة الزيارة تعتبر مهام تزيين العروس من اختصاص زوجات الحدّادين، أي "لمعلمات"، حيث يتولين مهمة تصفيف شعرها وتزيينه بمختلف أنواع الحلي والأحجار الكريمة وأيضا تزيين يديها ورجليها بالحناء، وبصفة عامة الإشراف على العُرس بجميع تفاصيله بالإضافة إلى تنشيطه، وغالبا ما تَكُنَّ وصيفات للعروس.
لقد أظهرت الزيارة التي أجريناها لمنطقة الساقية الحمراء جنوب المغرب أن تقسيم العمل داخل فئة "لمعلمين" يكون موحدا حيث يخضع لمعيار الجنس الذي يخضع بدوره لطبيعة المادة المستعملة في العمل، فالعمل مثلا على المعدن والخشب هو نشاط ذكوري في حين أن العمل على الجلد يعتبر نشاطا أنثويا. هذه الملاحظة نقلناها إلى د.صلاح اركيـي[الباحث في مجال علم الاجتماع والأنثروبولوجيا]، فأجاب:
»يعمل رجال فئة "لمعلمين" عادة على الخشب والمعدن، أما العمل على الجلد وفن تزيينه فيكون من اختصاص زوجاتهم أو بناتهم، وهذا دليل على أن النساء هن الأكثر مهارة وإبداعا في الأعمال التي تتطلب الدقة والتركيز، إذ أن التحكم بالمواد اللينة يكون أكثر صعوبة من التحكم بالمواد الصلبة، فطريقة شدها تتطلب الرفق لأنها قد تتمزق بشكل أسهل من المواد الأكثر صلابة؛ إن قوام المادة الهش يتطلب العمل بخفة بالغة، وهي نفس الصورة النمطية التي نجدها عند طوارق نيجيريا ومالي وعند بعض المجتمعات الإنسانية الأخرى. في حين يمكن "للمعلم" أن يعمل أيضا على الجلد لكن لصناعة أشياء بسيطة كالأحزمة أو النعال أو الدِّلاء التي تتولى زوجته أو ابنته تزيينها، ولكن يظل عمله يرتكز بالأساس على مادة الخشب والمعدن بأنواعه.«
لقد أبدعت أنامل "لمعلمين" و"لمعلمات" منتوجات حرفية وتحف فنية غاية في الجمال والروعة، ومنتوجاتهم تحمل العديد من الرموز والأشكال الهندسية والرسومات الزخرفية والألوان التي تعكس أبعاد ثقافية متنوعة صنهاجية وإفريقية سوداء وعربية. إنها تُعبّر عن سحر الثقافة الصحراوية، فهي، وإن بدت بسيطة من ناحية التقنية والغرض، إلا أنها متنوعة للغاية ويصعب حصر تفاصيلها، كما تعبر عن مهارة استثنائية وتحبل بالعديد من الأشكال الرمزية السحرية والأسطورية والدينية المتصلة بثقافة الترحال.
ولاشك أن هذه الفئة بجنسيها، والتي تقدم خدمات متنوعة للمجتمع الصحراوي جنوب المغرب، تساهم بشكل مركزي من حيث تدري أو لا تدري في الحفاظ على الإرث الثقافي للمنطقة المهدد بالاندثار، وذلك في وقت أضحت فيه مختلف المجتمعات متأثرة بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة المرتبطة بالعولمة وتكنولوجيا الاتصال.
فمِنْ غير المستساغ اليوم أن تتوقف يد "لمعلم" عن تطويع المعادن العادية منها والنفيسة وتحويل الأخشاب، ولا "لمعلمة" عن تنميق الجلود، بسبب غياب الدّعم أمام المنافسة غير المتكافئة مع الآلات العصرية..