كل شيء كان جاهزا للانطلاق في رحلة انطلقت بفكرة سرعان ما تحولت الى مبادرة وجدت طريقها الى التنفيذ . و باكتمال الإجراءات الأمنية و عملية معاينة الحافلة انطلقت الرحلة بكثير من التشويق و لكن أيضا الإصرار على أن يكون الحدث مميزا و حضاريا و بعيدا عن كل محاولات المتاجرة بماسي الأهالي في الشعانبي او تحويل الحدث النبيل في أهدافه الى مجرد عملية استعراض تحت الأضواء للتبرعات و المساعدات التي ارتبطت بالقافلة التضامنية و هو المبدأ الذي انطلقت معه المبادرة التي احتضنها المجتمع المدني بعيدا عن كل الأحزاب و الزعامات السياسية بهدف التضامن مع الجيش الوطني و حاملي الزي الوطني من أمن و حماية مدنية في الشعانبي الى جانب التضامن مع الأهالي في منطقة محاطة بالمخاطر و يعيشون يوميا على وقع تهديدات الإرهابيين المتخفين في مغاور الجبال.
بالوصول الى سبيطلة بدأت الأمور تتخذ صبغة جدية هناك كان في انتظار الحافلة التي تقل المجموعة رتل من الحرس و الجيش الذي رافق القافلة الى مدخل القصرين قبل أن يحول عملية المرافقة الى فوج اخر الى غاية الوصول الى مكان الإقامة رفقة الجيش الوطني و هو المكان الذي كان يعرفه جل التونسيون بمنتزه الشعانبي يوم كان يحتضن الرحلات الكشفية و الرحلات المدرسية و العائلية للتمتع بجمال الطبيعة هناك و التجول في ربوع محمية الشعانبي و متحفها قبل أن يغلق و يتسلل الى هناك جماعات الإرهابيين و المخربين الذي استهدفوا أمن الأهالي و تسببوا في حرق و إبادة ثروة نباتية و حيوانية لا تقدر بثمن ...
-لا صوت يعلو على ارادة الحياة في الشعانبي
طبعا لم تكن تلك الليلة عادية في شيئ و الكل يتطلع الى ضوء النهار ليرى جبل الشعانبي في شموخه كشيخ وقور يتربع على الموقع يحرس الموقع و يستعد للاحتفاء بضيوفه وكأنه يروي في صمت والم حكايته مع الإرهابيين الغربان و ينتظر أن يستعيد موقعه في حياة الأهالي و الصيادين و الزوار و التلاميذ و الطلبة و السياح القادمين من كل انحاء لبلاد و من دو الجوار ...نعم هكذا يصف أهل الشعانبي الارهابيين غربان سوداء نذير شؤم كلم لاحوا الا طغى صوت النواح في البلدة و قد ان الاوان أن يقتلعوا من جذورهم و يرحلوا دون عودة , أهل المنطقة يصفونهم بالغربان الناعقة في سواد ألوانهم و نذير الشؤم الذي يحملونه كلما استهدفوا أمن الأهالي و جعلوا منهم دروعا بشرية للوصول الى غاياتهم الإرهابية الدنيئة .
بعيدًا عن الأجواء الاحتفالية العادية في مثل هذه المناسبات و في حماية الجيش التونسي في الشعانبي كان هذا الموعد الاول من نوعه مصافحة وطنية خاصة و خطوة أرادها المثقفون و عديد مكونات المجتمع المدني رسالة من الشعانبي و من قلب الخط و على مقربة من أوكار الإرهابيين، لتوجيه رسالة تحد ضد الإرهاب و رفض الظلامية وثقافة الموت والعنف و رفض و تدمير الشعوب و الاوطان .
المبادرة التي أطلقها المجتمع المدني بدعم من المثقفين و الجامعين حملت شعار "قافلة التّضامن مع جنودنا وأمنيّينا وأهالينا في الشعانبي" رفضت منذ البداية أن تكون تحت مظلة أي حزب أو قيادة سياسية و رفضت ايضا أن تتحول عملية التقارب مع اهالي المنطقة و توزيع المساعدات على الاطفال المعوزين الى عملية استعراضية ابتزازية لالتقاط الصور أو و الركوب على ماسي الاخرين من أبناء البلاد..
وقد كان الهدف من المبادرة التي يفترض ان تتكرر و نحن نستعد لاحياء الذكرى الستين للاستقلال هو بعث رسالة تحدّي للجماعات الإرهابية التي استوطنت مرتفعات جبل الشعانبي منذ أكثر من ثلاث سنوات وأقامت فيها معسكرات تدريب، و اعلان التضامن مع سكان محيط الشعانبي و المواقع التي يهددها الارهابيون على صمودهم في وجه الإرهاب ومواصلة اعمار المكان وعدم الهرب من مساكنهم ليعشش فيها دعاة الظلام وأعداء الحياة.
الحضور الرسمي في هذه التظاهرة اقتصر على التنسيق الذي تولى كمال الجندوبي المكلف بالعلاقات مع المجتمع المدني في الحكومة مع وزارة الدفاع و السلطات الجهوية إضافة الى مشاركة رئاسة الجمهورية بإهداء مأتي دراجة للأطفال في الشعانبي .
والخطوة تأتي بعد اشهر على مبادرة المثقفين لمحاربة الإرهاب في 12 اوت الماضي ردا على تواتر الهجمات الإرهابية في البلاد و تحول مرتفعات الشعانبي الى معقل للمجموعات الإرهابية المسلحة التي جعلت منه منطلقا للتخطيط وتنفيذ العمليات الإرهابية التي استشهد خلالها عشرات الأمنيين والعسكريين.
الشعانبي المنطقة العسكرية المغلقة احتضن على مدى يومين عشرات النشطاء من المجتمع المدني و شهد تنظيم ندوات فكرية حول الإرهاب و الاعلام و حول البيئة و الإرهاب و التنمية و الإرهاب بمشاركة ثرية لمجتمع المدني و مثقفي القصرين و كانت تلك الندوات فرصة لإلقاء الأضواء على الأوضاع المأساوية للجهة و حالة الاحتقان و الغضب التي لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهلها .
اللقاء و هو الأول من نوعه و ان كان رمزيا في ظاهره فقد كان محملا بالكثير من الرسائل و الإشارات الإيجابية بأن تونس بلد السلام و لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تركع للإرهاب أو تتنازل عن أي شبر من ترابها للجماعات الإرهابية و أن لجنود تونس المرابطين على الحدود تحسبا للخطر يحظون بكل الدعم و التضامن في هذه الحرب على الإرهاب التي فرضت على البلاد .
و قد جاءت هذه الخطوة للتأكيد على أن من حق أهالي منطقة الشعانبي التي تعد أخطر منطقة في البلاد أن يفرحوا وأنه من حق الأطفال هناك أن يعيشوا حياة طبيعية , ان يغنوا للحياة و هو ما لمسناه لدى كل من اشتركوا في التظاهرات من أطفال مدرسة بولعابة و غيرها من مدارس المنطقة و هم الذين قدموا للجنود الورود و رددوا معهم النشيد الوطني و صرخوا ملئ حناجرهم "تونس تونس حرة حرة و الإرهاب على بره أو كذلك يا إرهابي يا جبان جيش تونس لا يهان "قبل أن ينساق معهم الجميع في تلك الشعارات الحماسية..
مشاعر ممتزجة بين الشعور بالفخر و الانتماء لهذا البلد و بين الإصرار على تحدي الإرهابيين في مغاور الشعانبي سيطرت على الحضور الذين لم يترددوا في الخروج في جولة استطلاعية في منتزه الشعانبي جولة كانت في حماية فرق الجيش الوطني الذين كانوا الدرع الذي رافق الجميع في كل خطوة يخطونها في سفح الشعانبي يحيث لا يمكن الوصول الى هناك الا على متن الدبابات المصفحة التي رافقتنا .
الاثار الهمجية للإرهابيين واضحة للعيان فالمكان يكاد يكون مقفرا و اثار حرق الأشجار و النباتات تتحدث عن كارثة بيئية قد لا تتضح تداعياتها الان بعد أن هجرت الحيوانات المكان , المتحف الايكولوجي أغلق أبوابه و المنتزه الذي كان يستقبل زواره تحول الى معسكر للجيش الوطني الذي يسهر على المناطق الحدودية ...
من بقي من الأهالي ممن التقيناهم يعانون الامرين بين مطرقة الإرهاب و بين ضنك العيش و صعوبات الحياة في ظل طبيعة قاسية زادها انحباس المطر هذا الموسم قساوة ...
اللحظات الفاصلة بين السنة التي تمضي و السنة الجديدة كانت لحظات رائعة انتظرها الجميع بعد يوم من النشاط الفكري و اللقاءات و النقاشات الحماسية التي لم تخلو من التشنج كلما تعلق الامر بالتنمية المغيبة و باستمرار التهميش و غياب الاهتمام الذي فاقم المعاناة , مع منتصف الليل بدا اطلاق الشماريخ التي أضاءت سماء الشعانبي و أضافت على المشهد رونقا خاصا عندما ردت بدورها المدفعية من جبال السلوم ما جعل الحضور ينطلق في التغني بالنشيد الوطني لتتشابك الايدي و يشترك المدنيون و العسكريون من أجيال مختلفة في احياء حلول العام الجديد ...رسالة قد لا تعجز كل الكلمات في نقلها و لكنها كانت أجمل صورة تستقبل معها تونس الامل و الحياة و السلام العام الجديد ...
-ماذا بعد ؟
الجانب الاحتفالي المميز الذي سيظل عالقا في الذاكرة و نحن نعيش أجواء السنة الجديدة لا يمكن أن يسقط من الاهتمام غضب الاهالي و صرخة المثقفين الذين دعوا الى اطلاق مسيرة تنمية خضراء مسيرة انتظروها و لم تأت بعد مرور خمس سنوات على الثورة التي دفع أهل القصرين من دمهم ثمنها باهضا ...
ولاية القصرين و منطقة الشعانبي و غيرها من المناطق المهمشة التي تتحول الى حاضنة للارهاب في غياب الفرص و انعدام الافاق , منتزه الشعانبي المحمية من اليونسكو و كانت تعد 262 جنس نباتي من الصنوبر الحلبي و البلوط و العرعار و اكثر من 24 فصيلة من الثدييات و 16 نوع من الزواحف و غزال الجبل و الوشك و ابن اوى و الاوز الكندي و غيرها انقرضت من المشهد و ما بقي على وشك الانقراض ...
الشعانبي كان على موعد مع بداية العام مع مبادرة الامل التي تفترض استمرار الجهود و مواصلة المسيرة التضامنية للقضاء على الارهاب و اعلان النفير من اجل التنمية المطلوبة و حماية حقوق الاطفال في التعليم وضمان حقوق الجميع في الكرامة ...و يكفي الاستماع لاصوات تلك المنظمات و الجمعيات التي تقودها نساء من مختلف مناطق الولاية من اجل فضاء للكتاب او فرصة لتشغيل النساء من غير حاملات الشهادات العلمية لندرك حجم المسؤولية التي تنتظر اصحاب القرار في البلاد...