نواذيبو و الزويرات هما قطبان اقتصاديان يتركّز فيهما ما يزيد عن 60 % من النشاط البحري و المنجمي لموريتانيا. و المدينتان شهدتا ارتفاعا ملموسا للسكّان في وسط الثمانينات بعد الاقبال الجارف عليهما من الريفيّين الباحثين عن عيش أفضل. ذلك ما غيّر ملامحهما بشكل واضح حيث أنّ تزايد عدد الأحياء الفقيرة نجم عنه انتشار واسع للفقر و لمختلف المشاكل الاجتماعية المرتبطة به إذ بتضاعف عدد الفقراء تفاقمت المشاكل المتعلّقة بالتعليم و الصحّة و تنامى العنف في المدن و كثرت الأنشطة المشبوهة بأنواعها...
نفس الشيء كذلك بالنسبة للعاصمة نواكشوط التي ارتفع عدد سكّانها من 80.000 نسمة في سنة 1960 ليتجاوز المليون نسمة اليوم. و جاء في التقرير الذي نشره صندوق النقد الدولي تحت عدد 252 / 11 أن عدد سكّان الأحياء الفقيرة بالعاصمة كان يقدّر منذ سنة 2008 ب 194.000 نسمة، أي بنحو 25 % من مجموع سكّان المدينة، بحيث تتوزّع 38.000 اسرة على مساحة 1072 هكتار.
هذا الارتفاع الملحوظ في عدد السكّان، و الذي تسبّب فيه نزوح الكثير منهم قادمين من المناطق الدّاخلية للبلاد نحو العاصمة، استمرّ ليبلغ في نهاية الأمر نسبا مقلقة. هذا بالإضافة إلى كلّ ما يترتبّ عن ذلك من ظهور فقاعي و فوضويّ للأحياء المتاخمة للمدينة و التي تتكوّن من جملة من الخلايا السكنيّة يعبّر عنها ب"الڨزرة" و هي عبارة عن بؤر بائسة يسودها الفقر و يتفشّى فيها المرض و الجهل و تنتشر بها الأمّية و سوء التغذية و تعمّها الفوضى و الأوساخ و ينعدم فيها الأمن و يتنامى العنف.
أمّا السكّان النازحون الذين استقرّوا بهذه الأحياء البائسة فهم في معظمهم من مربّي الماشية. قدموا من الحوضين (الشرقي و الغربي) و من العٙصّابة في شرق البلاد بعد أن قضى الجفاف على مواشيهم، كما أنهم أمّيون و ليس لديهم أي تأهيل مهني.
و بعد أن عجز هؤلاء النازحون عن الاندماج داخل النسيج الاقتصادي أصبحوا منبوذين يعيشون كالطّفيليّات على ظهر مجتمع مقسّم ما فتأت تسوده العقلية الذّاتية. فالمتسوّلون مثلا اللذين تعجّ بهم يوميّا شوارع العاصمة نواكشوط و يكتسحون مفترقات الطرق و الجوامع و واجهات البنوك و بعض البنايات الإدارية هم في معظمهم ينحدرون من هذه الفئة الاجتماعية الغريقة التي لا أمل لها في النجاة.
من بين هؤلاء، يتحدّث إلينا محمود ولد السالكو فيقول : " أنا مصاب بالشلل و أقطن في الفلّوجة (حيّ من الأحياء المتاخمة لنواكشوط). أجد صعوبات لا تحصى و لا تعدّ في الحصول على ما يساعدني في توفير احتياجات عائلتي فأنا أعيش من التسوّل و ليس لديّ اي مورد آخر أسترزق منه و يحدث أن يمرّ عليّ يومان أو ثلاثة بدون أن أجد ما يسدّ رمق أسرتي ".
و يعدّ المتسوّلون من أمثال محمود بالآلاف في نواكشوط. و في إطار برنامجها الوطني لمقاومة التسوّل ، أحصت مفوّضية الدفاع عن حقوق الإنسان و مقاومة الفقر و الإدماج، سنة 2001، ألفي متسوّل غير أن غياب الرّقابة و سوء التصرّف كانا السبب في فشل هذا البرنامج بحيث عاد المتسوّلون ليحتلّوا مواقعهم السابقة في الأنهج و الشوارع و الأسواق و مفترقات الطرق بل و تزايدت أعدادهم بنسق سريع جدّا حتّى أن بعض الأرقام تقدّرهم بما يزيد عن 4500 متسوّل.
راماتا مامادو تنحدر من بلدة كانكوسّا في مقاطعة العصّابة و هي تعيش صحبة زوجها و أطفالهما الثلاثة في كوخ قديم لا يملكون فيه من الأثاث سوى خزانة متهالكة و حشيّة عفا عليها الزّمن. و لا يتجاوز معدّل الدّخل اليومي لهذه الأسرة 600 أوقية موريتانية، أي ما يعادل 1.69 دولارا.
تروي لنا راماتا بؤس وضعها فتقول : " أطفالي لا يذهبون إلى المدرسة بسبب ضيق ذات اليد كما أنّنا لا نأكل كلّما نجوع بل يحدث أن نقضي يوما بأكمله دون أن نضع شيئا في أفواهنا... و ضعنا صعب للغاية فزوجي ليس لديه عمل قارّ و تجارتي الزهيدة هي التي تمكّنني، قدر المستطاع، من رعاية أبنائي. كنا قد تركنا كانكوسّا على أمل أن نجد في نواكشوط ظروف عيش أفضل مما كنا عليه لكنّنا ندمنا اليوم على اتخاذ هذا القرار فهنالك على الأقل كنا نعيش في بيت على ملكنا الخاصّ أمّا هنا فنعيش مهدّدين بأن يقع طردنا في أيّة لحظة كما لو أن سيفا كان مسلّطا على رقابنا ليلا نهارا ".
و بالفعل، فالملكيّة العقارية غدت مشكلة مطروحة بشدّة على متساكني الأحياء الفقيرة، حيث يقول مصطفى ولد مبروك، أحد متساكني ألاك شارب : " نحن نسكن ڨزرة ألاك شارب منذ منتصف التسعينات و كنا دائما نعيش على أمل أن يقع التفويت لنا في ملكيّة الأراضي. لكن منذ أحداث ڨزرة بوعماتو (تمرّد حدث في صفوف المتساكنين تلاه كرّ و فرّ مع الشرطة و نجم عنه وقوع جرحى من كلا الطّرفين)، أصبحت لدينا شكوك حول جدّية الوعود التي قُدِّمت لنا. فالدّولة الموريتانية لا تتردّد في منح الأراضي لرجال الأعمال و الأثرياء بقدر ما تحجم عن فعل ذلك عندما يتعلّق الأمر بالفئات الفقيرة. و حتّى إن حدث و تمّ منح بعض الأراضي للفقراء فإن ذلك يكون غالبا في مناطق نائية للغاية و غير مؤهّلة بالمرّة ".
أحد الموظّفين بوزارة الدّاخلية، و هو يفضّل عدم الإفصاح عن هويّته، يرى أن سوء التصرّف العقاري في العاصمة نواكشوط يمكن أن يتسبّب في إشعال فتيل الصّراعات الطّائفية في كلّ لحظة إذ أن التقسيم الخطير للمجتمع يظهر جليّا للعيان من خلال وجود أحياء للزنوج مثل السبخة و عرفات و ميسيد نور و بصرة و أحياء للحراطين مثل دار نعيم و الميناء و منداس و أحياء أخرى للعرب مثل توجانين و بوحديدة و تون سويليم و تافراغ زينة... و يرى محدّثنا أنه من غير المستبعد أبدا أن ينجم عن هذا التوزيع غير العادل لثروات البلاد، خاصّة إذا ما أضفنا إليه غياب العناية الفعليّة و الملموسة بالتنوّع الثقافي للمجتمع، انتفاضات شعبيّة من شأنها أن تودي بالسّلم الاجتماعية.