ونظرا لقربها من العاصمة وهوائها النقي استضافت بين ربوعها عددا من الرؤساء والزعماء خلال العقود الماضية والذين حلوا ضيوفا على سكانها خلال زياراتهم لموريتانيا والذين نذكر من بينهم الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك والراحل معمر القذافي فقد كانت القرية قبلة للباحثين عن نسيم الضواحي ويمتلك بها عدد من السياسيين ورجال الأعمال الموريتانيين اراضي وعقارات يرتادونها موسميا للراحة،
فجأة تغير المشهد وتحديدا خلال السنوات العشر الأخيرة ولم تعد "تيفيريت" متنفسا نقيا ولا قبلة للباحثين عن الراحة، تناقص عدد الزوار حتى أن بعض سكانها الأصليين هجروها فبعد أن قررت السلطات الموريتانية إقامة مكب للنفايات على مساحة 4 كيلومتر لا يبعد عن القرية أكثر من كيلومترين تحولت الحياة في هذه القرية رأسا على عقب .
أصبح السكان يعيشون في محيط اخر جراء تلوث الهواء وتكدس النفايات في محيط القرية في مشهد بات ينذر بكارثة بيئية تتفاقم بشكل مستمر ويتجرع مرارتها وخطورتها يوميا من قرروا التشبث بأرض قرية تختنق.
"أحمد محمود التندغي" أحد أبناء قرية تيفيريت وعضو الحراك الرافض لإقامة مكب للنفايات بالقرب منها يروي لنا بداية قصة المكب قائلا: «في صيف 2004 تفاجأنا بتحرك آليات وجرافات بالقرب من القرية وعندما استفسرنا عن الموضوع قيل لنا إن الآليات جاءت لإقامة مصنع للبلاستيك وإعادة تدوير النفايات الصديقة للبيئة وإن مشروع المصنع سيوفر فرصا للعمل وسيُدر دخلا على السكان المحليين والقرى المجاورة،
يتابع احمد "بعد انتهاء أشغال تشييد المصنع اكتشفنا أننا خُدعنا وتعرضنا للتضليل والمغالطة، قريتنا ستتحول إلى مكب لكل نفايات العاصمة نواكشوط بعد أن اكتملت الأشغال في مكب أقيم خصيصا للغرض.
مرت سنوات إلى أن حل العام 2007 وبدأت شركة فرنسية متخصصة في النظافة بتشغيل المكب وجلب النفايات إليه ومعالجتها فيه وبعد شكاوى تقدم بها السكان يضيف احمد أرسلت إلينا خبيرا في البيئة من باريس ليقف على الإجراءات المتبعة لمعالجة النفايات وليتأكد من مدى عدم خطورتها على البيئة وملائمتها للمعايير المتبعة دوليا .
وقد رافق هذا الخبير خلال العملية وفد يمثل سكان القرية للوقوف على طرق معالجة النفايات حيث لم يلاحظ خلال هذه الفترة أي مضاعفات جانبية تهدد الحياة البيئية فلا هواء ملوثا ولا حشرات.
عام 2014 كان عاما مفصليا ونقطة تحول في حياة القرية وساكنيها يقول محدثنا فبعد خلاف لم ينته الى اتفاق بين الشركة التي كانت تشغل المكب والسلطات الموريتانية انقطعت الشركة الفرنسية بخبرائها وكوادرها ومعداتها عن معالجة النفايات ليغلق المكب لمدة شهر.
وبعد رحيل الشركة الفرنسية التي كانت تتولى تنظيف العاصمة نواكشوط ونقل نفاياتها إلى المكب تولت المجموعة الحضرية لمدينة نواكشوط مهمة تنظيف العاصمة وأصبحت السيارات التابعة لها تقوم بتفريغ النفايات التي تجلبها من نواكشوط إلى المكب وغالبا ما تعمد الى رمي النفايات خارج المنطقة المخصصة لها في محيط المكب لتبدأ فصول قصة أخرى من معاناة سكان قرية تيفيرت مع نفايات نواكشوط".
يواصل أحمد محمود سرد القصة بمرارة "بعد أن تولت المجموعة الحضرية سنة 2014 تشغيل المكب الذي زرع غصبا في محيط قريتنا سجلنا قيام السيارات التابعة لها بتفريغ النفايات على حافة الطريق وبشكل عشوائي وفوضوي دون معالجة ولا طمر ولا ردم، مما رسم ملامح كارثة بيئية تتفاقم بشكل مستمر في القرية والمناطق المحاذية لها، لقد اصبحت المنطقة مرتعا للذباب والحشرات والروائح الكريهة وانتشرت لدى السكان أمراض جلدية وصدرية و سرطانات وإسهالات."
المعتقل السابق خلال إحدى الوقفات الاحتجاجية المطالبة بإنقاذ تيفيريت من النفايات عبد الودود ولد حماده يروي شهادته فيقول:" نعيش منذ زمن على وقع الروائح الكريهة والهواء الملوث في القرية ومعاناتنا جراء النفايات مستمرة فقد تم قمعنا مرات من قبل قوات الدرك وتعرضنا للتضليل والوعود الكاذبة من قبل الجميع وسنواصل النضال حتى يرفع عنا الظلم و يتم إغلاق مكب النفايات ويرحل بعيدا عن قريتنا..كانت سنة 2014 الأصعب بالنسبة لنا على الإطلاق من حيث المواجهات مع الدرك واستقبال الروائح الكريهة والهواء الملوث وتسجيل العديد من الأمراض بين سكان القرية والقرى المجاورة ما أدى إلى هجرة بعض الأهالي هربا من هذه الكارثة البيئية، فالهواء الملوث المنبعث من المكب ينتشر على مسافة 40 كلم بحسب شهادات سكان بعض القرى المجاورة".
أما محمد الأمين ولد محمدن الذي يختصر عمره تاريخ القرية فيقول: " نشعر بالقلق الدائم عند تناول المنتجات الحيوانية في القرية نظرا لرعي بعض حيواناتنا على النفايات التي تتكدس هنا وهناك والتي تحوي في ما تحوي للأسف نفايات طبية وصناعية تنذر بالخطر وقد تسبب هذا الوضع في هجرة بعض السكان وظهور أمراض جلدية مزمنة وإسهالات من وقت لآخر إضافة إلى تسجيل وفيات جراء الإصابة بالسرطان ووقوع تشوهات في بعض المواليد الجدد.
ولم يقتصر التلوث على محيط القرية بل عم المنطقة الرابطة بينها وبين العاصمة نواكشوط يضيف محمد الامين، كما أن الغطاء النباتي في القرية تأثر جراء هذه الكارثة البيئية، فالنفايات المتكدسة اصبحت بمثابة القنابل الموقوتة تندلع النيران فيها دائما مما يسبب الأمراض ويكلفنا أعباء اقتصادية مكلفة للعلاج في الداخل وفي الخارج".
يتابع محدثنا "لقد صمدنا أمام محاولات المجموعة الحضرية شراء ضمائرنا وسنواصل نضالنا السلمي والقانوني حتى ترحيل المكب عن محيط قريتنا التي تحولت من فضاء مريح ونقي إلى بيئة سامة وملوثة، وبكل تحد يرفع محمد الامين صوته :"مطالبنا مصيرية و لا نساوم عليها."
تفاقم الوضع وتلوث هواء القرية ومحيطها دفع السكان للتحرك والاعتصام بالقرب من المكب، وقطع الطريق أمام الشاحنات التي تجلب النفايات من نواكشوط.
يقول المحامي الشيخ ولد حمدي الذي يتابع القضية في المحاكم "لجأنا إلى القضاء في فبراير 2015 ورفعنا دعوى ضد المجموعة الحضرية والشركة الفرنسية نظرا للضرر الذي سببه مكب النفايات على السكان وعلى البيئة والمنطقة، فبادرت المحكمة بإرسال طلب إلى وزارة البيئة لتسليمها تقريرا كانت قد أعدته عن مكب النفايات في القرية لكن الوزارة لم تستجب للطلب
يضيف المحامي: «نحن نتابع مسار القضية بشكل طبيعي وننتظر جلسة قريبة للمحكمة العليا حول القضية وكل المعطيات المتوفرة في المسألة يمكن توظيفها قانونيا لصالح سكان القرية ضد المجموعة الحضرية لأن ما قامت به يتعارض مع القانون وتم بشكل عشوائي دون الحصول على ترخيص من وزارة البيئة والمجموعة لا تمتلك أي سند سوى مقرر بمنح قطعة أرض صادر عن وزارة المالية وهذا غير قانوني إطلاقا وفق تعبيره ".
يقول المتخصص في البيئة الحضرية والباحث في كلية العلوم والتقنيات بجامعة العلوم والتكنولوجيا والطب في نواكشوط محمد سالم عبد اللطيف:" لقد زرت مكب النفايات بقرية تيفيريت ورأيت أن المكب لايتم تشغيله وفق معايير تحترم البيئة وعمليات الردم والطمر ومعالجة النفايات لا تتم كما يجب ويقوم بها طاقم غير مختص، فالمكب كان يمكن أن يقام وفق معايير وضوابط تحافظ على البيئة وهذا ما كان مخططا له بالفعل من خلال مخطط يمتد إلى أفق 2018 -2020.
المشكلة انه بعد مغادرة الشركة الفرنسية لم يكن متوفرا لدى الدولة الموريتانية الكوادر والمعدات اللازمة والمقاييس للتعامل مع مثل هذه الوضعيات فلا يوجد من يمتلك خبرة في المجال، وغياب المقاييس البيئية المحلية جعل الدولة تعتمد على مقاييس دولية تعتمدها عادة هيئات مهتمة بالبيئة تابعة للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وهذا غير موضوعي، لأن المقاييس البيئية المحلية تدخل في إطار التشريعات الوطنية مما يضفي عليها طابع الإلزام. "
أما الباحث في مجال البيئة د.عبد الرحمن محمد محمود الرباني فيرى بأنه يجب إدارة نفايات هذا المكب وطمرها بصورة سليمة تراعي العوامل الطبيعية وتحترم معايير السلامة والصحة الضرورية للمحافظة على المحيط الحيوي.
ويبلغ معدل إنتاج القمامة في العاصمة الموريتانية نواكشوط التي يناهز عدد سكانها المليون نسمة حدود 237000 طن سنويا، وهو ما يستدعي إقامة مكب كبير يفي بحاجة مدينة بهذا الحجم ويكون في ان مطابق للمواصفات المتفق عليها دوليا وهو امر يشكل في الحقيقة تحديا بيئيا وصحيا واجتماعيا بالغ التعقيد للدولة وللسكان .
و يضيف الدكتور الباحث عبد الرحمن بأن من أبرز المخاطر المترتبة عن إقامة مكب للنفايات بهذا الحجم بالقرب من السكان تلوث الهواء بسبب التعفن والتخمر الناتج عن تحلل المواد العضوية، وانبعاث روائح وغازات سامة تستنفد الأوكسجين من الهواء، هذا إضافة إلى تلوث التربة و تسمم المياه الجوفية ومشاكل للصحة العامة خاصة إذا تعلق الأمر بالنفايات الطبية الخطرة و التي يمكنها أن تتسبب في نقل العدوى ،والتسمم بواسطة نفايات أدوية العلاج الكيماوي والأدوية منتهية الصلاحية و المحاقن و القفازات والملابس والأوعية الملوثة وبقايا إفرازات المرضى، أو التسمم بالمعادن الثقيلة كالزئبق والرصاص والكادميوم المستعملة في أقسام الأشعة.