وبعدَ حالة الفوضى التي أعقبت الثورة الليبية وما تلاها من انهيار واضح للدولة، اضطر الكثيرون من المقيمين في مختلف المدن والقرى الليبية الى العودة الى وطنهم الأصلي ، خوفا على سلامة عائلاتهم من بطش الميليشيات ،خاصة وأن عددا من الشناقطة تورط في ما عرف لحظتها بكتائب القذافي.
"محمد ولد فال" ،أحد الموريتانيين العائدين من ليبيا ويحمل جنسيتها ،قال لـ"أصوات الكثبان" ،ان ليبيا بالنسبة له أيام حكم العقيد ،كانت جنة الفردوس من خلال العناية التي خص القذافي بها الموريتانيين والمتمثلة في التعليم المجاني بكل مراحله للأبناء وتوفير فرص عمل محترمة لحملة الشهادات ومنح اعانات اجتماعية للعاطلين منهم عن العمل.
ويُؤكد "ولد فال" ، أنه اضطر لمغادرة سرت عام 2011، بعد تعرض منازل الموريتانيين في الحي رقم 3 بالمدينة للنهب من طرف بعض الميليشيات، حيث قرر لحظتها النزوح رفقة عائلات موريتانية الى العاصمة طرابلس وذلك بعد اعلان حكومة نواكشوط عن تنظيم رحلات مجانية لإجلاء رعاياها من ليبيا.
ويُضيفُ "ولد فال" أن حياته انقلبت رأسا على عقب، بعد أن سلبته الميليشيات كل ما يملك من أموال، مقابل السماح له وعائلته بالصعود الى طائرة موريتانية وصلت مطار طرابلس الدولي لإجلائهم ، باتجاه نواكشوط.
ويُتابعُ "ولد فال":وصلنا موريتانيا وكلنا أمل في الحصول على أبسط مقومات الحياة، لكن الواقع كان أقسى من أحلامنا، فالبطالة تضرب أطنابها في بلدنا الأصلي والتعليم الحكومي متدني والمدارس الخصوصية باهظة الثمن وإيجار المنازل مرتفع ".
ويَعتبرُ" ولد فال"، أنه وعائلته أصبحوا كالمستجير من الرمضاء بالنار وأن شغله الشاغل الآن هو كيفية الرجوع الى ليبيا، بعد أن يئس في الحصول على عيش كريم هنا ،وكله أمل في أن يتمكن الفرقاء في ليبيا من انهاء صراعاتهم وبناء دولة قوية تحفظ العيش الكريم، كسابق عهدها لأبناء الوطن الواحد والمقيمين ،على حد السواء.
بدوره "محمد احمد ولد سيد ،"يروي ل"أصوات الكثبان" كيف ضاع مستقبله الدراسي ،بعد عودته الى موريتانيا وكُلهُ حسرة على سنوات دراسته الاربعة في جامعة ناصر الأممية التي ذهبت أدراج الرياح.
يقولُ "محمد" ان دراسته انقطعت عام 2011 مباشرة بعد الثورة، حين كان يستعد للتخرج كإداري، إلا أن ظروف الحرب وإغلاق الجامعات الليبية، جعلته ينقطع عن الدراسة وكله أمل في أن تنتهي الثورة في غضون أشهر، ليعود الى دراسته وهو ما لم يحدث حتى الآن.
"محمد "، يتنهد طويلا وهو جالس على كرسي، في محل تجاري يعمل به وسط نواكشوط ،مستذكرا كيف أن مستقبله الدراسي انتهى، بعد أن رفضت جامعات عدة في تونس والجزائر والمغرب قبول تسجيله في السنة الرابعة من تخصصه، رغم وعود وزارة التعليم الموريتانية لحظتها والمتمثلة في البحث عن جامعات بديلة للطلبة لموريتانيين الدارسين في ليبيا.
ويُؤكد "محمد" ،أن الحظ حالف عددا من زملائه في الجامعات الليبية ،بعد دمجهم في الجامعات الموريتانية بالنسبة لأصحاب التخصصات الموجودة في جامعة نواكشوط ،الا أن مصيره كان الشارع، لأن الجامعة الوحيدة في موريتانيا ،لا تتوفر على تخصص الادارة.
معاناةُ الموريتانيين العائدين من ليبيا ، لا تتوقف عند هذا الحد، فمئات الاسر وجدت نفسها مشردة في وطنها، بعد أن اضطرتها ظروف الحرب القاسية هناك الى النزوح والعودة الى موريتانيا ،حيث نظموا أكثر من مرة وقفات احتجاجيه أمام القصر الرئاسي بنواكشوط ، مطالبين بدمجهم في المجتمع وتوفير فرص عمل لهم ومنحهم قطعا أرضية صالحة للإقامة ،وهي الطلبات التي تم تلبية أحدها ،بمنح العديد من العائلات قطعا أرضية في منطقة المربط شرق العاصمة نواكشوط.
في "حي العائدين" كما يطلق عليه محليا، تنعدم أبسط مقومات الحياة، فلا ماء ولا كهرباء، مجرد خيام مضروبة وأعرشة خشبية ، لاتقي ساكنيه من حراراة الشمس الحارقة ولا البرد القاسي .
وتقولُ "آمنة منت سالم" ،ان واقعهم في الحي مأساوي، متهمة الدولة بالتقصير في حقهم ورميهم في مكان أشبه بالصحراء القاحلة التي يغيب فيها الامن ولا تصلح للآدميين.
ورَغم أن أغلب العائدين الموريتانيين من ليبيا يتفقون على أنهم يعيشون غربة قاسية في وطنهم ويحنون الى أيام الرخاء في بن جواد ودرنة والزاوية وسبها وسرت وطرابلس وغيرها من المدن الليبية التي ترتبط في وجدانهم برغد العيش ،الا أنه ثمة آخرين من العائدين استطاعوا الاندماج في الحياة النشطة بموريتانيا، ومن بين أولئك أساتذة جامعيون وأطباء، حتى أن بعضا منهم تقلد مناصب سامية في الدولة، مثل الدكتور اسحاق الكنتي الذي تم تعيينه مؤخرا مستشارا بالقصر الرئاسي، وهو استاذ سابق في عدة جامعات ليبية.
وفي هذه الصدد، تؤكد "عربية سيدي إبراهيم" لـ"اصوات الكثبان" ،وهي من خريجي جامعة طرابلس للعلوم الطبية (الفاتح )سابقا وأستاذة مساعدة لاحقا لمادة "الاحياء الدقيقة" في نفس الجامعة ، أن تغيرات كثيرة طرأت على حياتها بعد عودتها الى موريتانيا ،بدءا من تغيُر البيئة والأجواء وحتى نمط الحياة.
وتُضيفُ :" ظروفي الجديدة في موريتانيا بعد وصولنا اليها ،كانت صعبة فى البداية، ربما سببت لي حالة اكتئاب وذلك عائد للدلال النسبي الذي عرفته في ليبيا ،قبل أن أصدم لاحقا بالعيش في الاحياء الشعبية التي أقمت بها في ما بعد بنواكشوط" .
و تواصل "عربية " سرد قصتها قائلة: "كنت كمن نُقل من نعيم الجنة الى قاع السعير ،بدون ممهدات، في تلك الفترة أصبحت متعبة ومشوشة جدا ،تجاوزتها لاحقا بالإصرار والمثابرة ،بعد تذكر (أن توقد شمعه افضل من تلعن الظلام) ، زاولت عدة أعمال واستفدت من تجربة فى الخارج ونسخت جزء منها هنا ،خصوصا فى العمل المدني والخيري ،وبحمدلله تجاوزت تلك المرحلة والآن أحقق نجاحات وتميز فى عدة مجالات ولا أقبل بديلا عن وطني ، رغم عروض العمل فى الخارج".