لا مفر من مرارة العيش
المتوغل في عمق الصحراء يصطدم بمشاهد البؤس والفقر التي تحاكي معاناة البدو في جميع الظروف عبر امتداد صحاري ولاية الوادي بشمالها وجنوبها في وضعية أقل ما يقال عنها إنها مزرية، فواقع الحال لا يختلف بين رحلة الشتاء والصيف.
عمي "لخضر" رب إحدى العائلات الرحالة الذي فضل المكوث في بلدة بن قشة على تخوم دولة تونس، ضاق ذرعا بواقع الحياة المرير، فها هو اليوم يناشد السلطات العليا للبلاد بالتدخل سريعا لتحسين أوضاعهم بالقول "نطالب المسؤولين الاهتمام بسكان البادية ورفع حالة التهميش التي نعيشها يوميا، ومساعدتنا بتوفير المواد البيطرية لماشيتنا وحتى الخيام التي لم تعد تقاوم قساوة الطبيعة".
وغير بعيد يتخبط رحالة بلدة دوار الماء الحدودية في مختلف صنوف المعاناة، هنا ومن تحت سقف هذه الخيمة الهشة تحلخالةا يمينة واقع ايامها الصعب، قائلة " الفقر تجذر في المنطقة بقوة ورمى بأطنابه في مختلف مناحي حياتنا التي بات يميزها الرتابة والبعيدة كل البعد عن الحياة الآدمية..أطفالنا لا يرتدون إلا الملابس التي تجاوزها الزمن، فمنذ أن رأوا النور لا يعرفون مهنة غير مهنة الرعي، فهم يعملون على حش الحلفاء لبيعها يوم الخميس في سوق البلدة الذي يبعد عنا ب أكثر من 50 كلم لكسب لقمة العيش، أما النسوة هنا فشغلهم الشاغل الاحتطاب من النخيل والاشجار الصحراوية بطريقة قاسية جدا".
ومن وراء هذه الخيمة وبعد دقائق قليلة من المشيء على الأقدام وجدنا أنفسنا بين جنبات واحة من النخيل خالتي السعدية تعكس المشهد "نحن هنا نعمل على نزع الحطب من جذوع النخيل منذ الساعات الأولى للصباح من أجل طبخ الأكل للأولاد،، كرهنا ومللنا من هذه الوضعية المزرية.. نطالب المسؤولين بمساعدتنا لأن أبناءنا صغار يمتون في صمت".
هو واقع الحقيقة المؤلم من مسلسل المعاناة، فلا مسكن ولا مأوى يمتلكونه، هي مجرد خيام بالية من جريد النخيل أو من عشبة الحلفاء، كما تربط أكياس العلف المخصصة للماشية ببعضها وتوضع كالحواجز وينصب منها دارا للولادة وهنا الكارثة الكبرى .. وفي هذا المقام تصرخ السيدة الجبارية الملقبة بـ القابلة تقول" في الكثير من الأحيان جملة من المشاكل الصحية الأمر الذي ساهم في إصابة بعضهن بأمراض عديدة لحظة الولادة إلى درجة حدوث وفيات في ظل عدم تحرك المصالح المحلية لإنقاذهن من الموت المتربص بهن في كل دقيقة ومن جحيم الأمراض التي تحاصر عائلاتهن من كل الزوايا".
أطفال تحاصرهم الأمية والأوساخ
لا يختلف حال أطفال بوادي الولاية عن حال عائلاتهم كثيرا، هنا في صحاري بلدية وادي العلندة غربي مقر الولاية، وضعية البراءة فيها تصف بالمزرية للغاية والقاسية جدا، يواجهون مختلف الأمراض وسط العراء، يفترشون الأرض ويلتحفون خيام الأهل المصنوعة من أكياس الدقيق والنخالة في ظل عدم مقدرتهم على اقتناء خيم من وبر الجمال، وضعية أسهمت في تعرض عدد كبير من الأطفال إلى أمراض الطاعون والتيفوئيد التي تخلص منها العالم في العصور الوسطى. هم الأطفال الدين يصفون بالمقصيين من أدنى شروط الحياة الكريمة، فالتعليم لمن استطاع إليه سبيلا والمحظوظون فقط هم فقط القلة القليلة الذين يتكبدون عناء التنقل، أما الباقية الكبرى فالوجهة المجبرة نحو الرعي.
وفي صورة عاكسة لقتامة المشهد، الطفل علي وجدناه طريح فراش المرض تحت خيمة بالية لا تصلح لشيء بل أهون من نسيج العنكبوت، ومن داخل أسوارها تصرخ أمه فاطمة سخطا على مرارة الأحوال وتجاهل السلطات؛ قائلة "نحن هنا نعتمد في علاجنا على الطرق التقليدية والأعشاب ونتحمل الألم، ففي اليوم الواحد نتعرض للموت المحقق أكثر من مرة، ولكننا نواجه كل هذه المآسي بالصمود لعدم وجود حل بديل لدينا". وفي المحيط القريب لا يكاد يمر يوم أحسن من سابقه، تحيط بهم الأوساخ من كل صوب والقاذورات تحاصرهم من جميع الجوانب التي نغصت حياتهم وتحولت إلى مركز لانبعاث الروائح الكريهة ومختلف الحشرات الضارة وسط جحيم المعاناة وتحت رحمة واقع تعيس ومستقبل مظلم.
عائلات لا تعرف الدفتر العائلي
صورة أخرى من فصول المعاناة التي تعيشها عائلات البدو الرحل في مختلف صحاري بلديات الولاية الرعوية، عددهم يقدر بالمئات، لكن المفارقة المحيرة في معادلة العيش تحت الخيام في رحاب الصحراء هي كون العديد من العائلات وجدت نفسها تعيش بدون وثائق هوية، فهم لا يسمعون بالدفتر العائلي، والأكثر من ذلك لايعرفون حتى معنى بطاقة التعريف الوطنية، فالكثير منهم غير مسجل في دفاتر الحالة المدنية في جل بلديات الولاية..
لكن السؤال الذي يطرح هنا كيف تتعامل السلطات معهم في الاستحقاقات الانتخابية؟ وفي هذا السياق يقول البرلماني يحي بنين عن الولاية "إن هؤلاء المنسيين الذين قهرتهم الظروف الطبيعية وحياة البداوة الصعبة زاد تجاهل السلطات بعدم مساعدتهم في تسجيل أنفسهم وأبنائهم في سجلات الحالة المدنية من حجم انشغالاتهم ومشاكلهم في حياتهم اليومية التي يميزها الحرمان والشقاء على كل الصعد".
لا تعرفهم السلطات إلا يوم الانتخاب
حقيقة أخرى وقفنا عندها من مسلسل معاناة هؤلاء في فيافي صحاري الولاية النائية، فهم البؤساء الذين يقولون أن السلطات العليا للبلاد لا تتذكرهم إلا في المواعيد الانتحابية وحينها تزف لهم الوعود القديمة الجديدة بقرب ساعة الفرج وموعد الخلاص من جحيم التنقل والمعاناة التي يكابدونها ليلا نهار، وفي هذا الصدد يقول الحاج الطاهر "للأسف الشديد المسؤولين عنا لا يزوروننا إلا في الانتخابات من أجل منحهم أصواتنا يوم الاقتراع، فهم يظلون بعيدين كل البعد عن الواقع المزري الذي نتخبط فيها".
البدو حياة بين مخالب تجار السلاح والمخدرات
وفي صورة أخرى من المأساة بات العديد من قاطني بوادي الوادي يعيشون تحت رحمة مهربي السلاح والمخدرات على طول الشريط الحدودي وفي نقاط التماس الرابطة بين دولتي ليبيا وتونس، فواقع الحال الزج بهم في معاناة لا تتوقف محصلة لتزايد حجم الضغوط عليهم، ناهيك عن توريطهم في عمليات التهريب والاتجار بالسلاح، لأن ذنبهم الوحيد درايتهم الكاملة بالمسالك الصحراوية الوعرة وخبرتهم الميدانية في تقفي الآثار، مشاكل تضاف إلى أخرى التي أدخلتهم في دوامة الضغوطات غير المتناهية، وأضحى الخوف كل الخوف من تغير طريقة العيش في حياة البداوة التي توارثها العارفون بفيافي الصحراء السوفية عن الآباء والأجداد، فأضحت اليوم مهددة بالاندثار والنسف الكامل لما تبقى نتيجة لغياب الجهات المسؤولة لإنقاذ ما يمكن انقاده قبل فوات الأوان، وقبل أن يضيعوا في خانة النسيان وحينها يقع الفأس في الرأس.