انتقلنا إلى بيت بلقاسم لنسمع قصته وكيف يعيش في كنف هذه الحياة وما الذي يؤرّقه وما مطالبه التي يودّ إسماعها للغير. وصلنا إلى البيت فوجدنا والده في استقبالنا، كان البيت متواضعا وبسيطا جدا، وكان الشارع الذي يقع فيه البيت أكثر بساطة، حيث شعرنا أن المعاناة تحيط بالحي وسكانه جميعا لا ببلقاسم فقط. حين دخلنا إلى البيت لم يجد الأب مكانا يستقبلنا فيه سوى حجرة صغيرة جدا لا تتسع لعشرة أشخاص، وبدأ بسرد القصة.
كان حديث الأب معنا دالا على المُعاناة، إذ كان مسترسلا في الحديث مما يدل على سرده للقصة لأكثر من شخص قبلنا، فقد ولد بلقاسم في عام 1971، حيث الحياة الصعبة والبدائية في كل الأمور، حتى إنه لم يكن هناك مستشفى حيث يسكن في حيّه سوى مستوصف صغير دائم الاكتظاظ . ما يجعل الناس يضطرون للتنقل إلى المدينة التي تبعد أكثر من 20 كلم من أجل العلاج.
ترعرع بلقاسم ونشأ في عائلة محافظة جدا، تحافظ على الصلاة وصلة الرحم وأعمال الخير، ثم دخل المدرسة في عام 1977 حيث ظهرت عليه علامات التخلف الدراسي، إذ لم يكن من النوابغ ولا ممن يحظون بعلامات حسنة .. إلا أنه انتقل بصعوبة وأعاد بعض السنوات إلى أن وصل إلى السنة السادسة ابتدائي فتحصل على الشهادة بصعوبة كذلك، لكن الحظ لم يحالفه في إكمال الدراسة والحصول على شهادة التعليم المتوسط، فترك المدرسة واتجه إلى العمل اليدوي في الحقل رفقة والده. بقي بلقاسم على ذلك الحال لمدة 15 سنة إلى أن اتصل به جاره الحدّاد يطلب منه الانضمام إليه في ورشة الحدادة ليعمل معه، وبعد أن وافق والده بدأ يتعلم مع رب العمل تاركا الحقل لوالده، ومستقلا بقوت يومه مما يجنيه من دراهم معدودة بتلك المهنة البسيطة. ذات يوم وأثناء عمل بلقاسم بالورشة تفاجأ ربّ العمل أن بلقاسم ترك الأدوات وجلس، فسأله عن سبب توقفه فأجابه بلقاسم أنه يشعر بدوار شديد وأنه سيغمى عليه، فنقله إلى مستوصف القرية على جناح السرعة وهناك قام الطبيب بما يلزمه من علاج ومنحه عطلة مرضية لمدة ثلاثة أيام، إلا أن الدوار لم يتوقف وازدادت حالته سوءا، فنقله والده إلى مستشفى المدينة من أجل تشخيص الداء بدقة، فاكتشف الطبيب المختص أن بلقاسم يعاني من مرض عصبي يمكن أن يسبب له إعاقة ذهنية، وقد حدث ما لم يكن في الحسبان، لقد أصيب بلقاسم بإعاقة ذهنية بنسبة 10% وهو يتابع الطبيب النفساني إلى اليوم وتوقف عن العمل عند الحدّاد بطلب من والده.
تحصّل بلقاسم على وصفة طبية لدواء يتابعه طول حياته، وإن لم يتناوله أو نسيه يوما واحدًا فإن الألآم تقضّ مضجعه ولا يرتاح منها إلا بتناول الدواء، وهو ما ولّد لديه قلقا خاصة وأنه كثير النسيان. يواصل والد بلقاسم قصة إبنه، فعندما سمع صديق للعائلة بخبر الاعاقة أراد مساعدته فبحث له عن عمل في ورشة للبناء، إلا أن ما جعل الأهل يرفضون هو بُعد المدينة التي سيعمل فيها عن مقر سكن بلقاسم بحوالي 140 كلم، وهو ما يزيد من حيرة الأهل عليه خاصة مع متابعته للدواء، فبقي بلقاسم في بلدته ينتظر الفرج في اكتساب مهنة يقتات من عائداتها.
في ظل هذه المعاناة التي يواجهها بلقاسم، اقترح عليه أحد الأصدقاء أن يتجه إلى وكالة التشغيل من أجل إيداع ملفه هناك لعله يحظى بعمل ولو بسيط عوض التنقل من مهنة لأخرى دون مقابل مضمون، وكما كان الاقتراح فإن بلقاسم بدأ بإعداد أوراقه واستخرج ما يلزم من البلدية، إلا أنه وحين إيداعه للملف لدى وكالة التشغيل لم يقبل منه لعدم امتلاكه "الدبلوم" وحسب الموظف فإنه أهم شرط لإيداع الملف، رغم أن لديه شهادة تثبت خبرته المهنية الوجيزة في مجال التلحيم وأخرى في البناء والتي يفترض أن تكون مقبولة لدى وكالات التشغيل.
لم ييأس بلقاسم فحاول أن يبحث عن وسيط ليحل له المشكل فوجد، إلا أنه نُصح بأن يضيف لملفه بطاقة المُعاق لتكون له الأولوية، فاتجه إلى مديرية النشاط الإجتماعي من أجل ذلك، وبقي مدة ثلاثة أشهر متنقلا بين القرية و مقر الولاية رفقة أخيه دون جدوى، فتماطل المؤسسات جعل البطاقة تعرقل الملف من أصله، والوقت يمر كالبرق والمعاناة تزداد يوما بعد يوم.
لقد رأى بلقاسم في هذه المؤسسات كابوسا حقيقيا، فقرر أن يتوقف عن إعداد الملف والبقاء في البيت والبحث في قريته عن أي فرصة للعمل الحرّ، إلى أن اتصل به أحد أقاربه ليشغّله معه في ورشة للبناء علما أن البنّاء لا يتوقف عمله أبدا في القرى والمدن، خاصة مع ازدهار خدمة الدعم الريفي الذي توفره الدولة، فيجد المواطن البسيط والمؤهل للبناء فرصة للممارسة مهنته الحرة كما هو الحال لبلقاسم الآن.