بدأت حياة نزيهة وبدأت معها المعاناة منذ الولادة، فقد ولدت بآلام على مستوى عينيها والتي كانت ظاهرة للعيان، فنقلتها أمها إلى المستشفى حيث تقرر إجراء عملية جراحية لعينيها لأن احتمال فقدان البصر لديها ممكن الحدوث، إلا أن العائلة لم تكن تملك المال الكافي للقيام بتلك العملية، ما زاد من الألآم والضغوطات سواء من الجانب الصحي أو النفسي للطالبة نزيهة. لقد حاولت العائلة بشتى الطرق الاتصال بالأطباء المختصين من أجل التخفيض في تكاليف العملية ولكن دون جدوى، وكان الجميع في سباق مع الزمن كي لا يحدث ما لا يحمد عقباه، ناهيك عن الاتصالات التي كان يقوم بها الأهل والأقارب من أجل جمع المال – رغم كميته الكبيرة – أو إيجاد أحد المحسنين ممن يساهمون لإنقاذ الفتاة من العمى.
مرّت الأيام ونزيهة على تلك الحالة ودموعها لا تكاد تتوقف ألما وحسرة، إلى أن وجدت أحد الأطباء ممن رأف قلبه لحالتها وقرر معالجتها، لكن فات الأوان، فقد اكتشف الطبيب أنها فقدت البصر وهي في سن العاشرة.
لقد سبب ذلك الأمر خيبة أمل كبيرة لدى عائلة "نزيهة"، إلا أن ذلك لم يحبطها أو يكبح عزيمتها في مواصلة حياتها بشكل عادي، ورغم توقفها عن الدراسة إلا أنها بقيت مصاحبة لزميلاتها اللائي كنّ يعرفنها وجيرانها الذين أحبوها منذ الصغر، وأصبحت "نزيهة" مثال الصبر والاحتساب.
كبرت "نزيهة" وبلغت سن الرشد، ووالدها يرعاها بشكل تام وكان لها السند في كل شيء. وعندما بلغت سن العشرين ارتأت أن تبدأ مشروعها في حفظ القرآن الكريم بعدما داومت على الاستماع له من التلفاز والمذياع كل صباح. فقررت الانخراط في إحدى المدارس القريبة من المنزل وعمرها 28 سنة، وكان والدها كعادته راعيها الوحيد يصطحبها إلى المدرسة القرآنية صباحا وترجعها زميلاتها عند الزوال. تذكر صديقتها أنها كانت مثابرة فعلا، وأنها لا تملّ السؤال والاستفسار عن معاني القرآن الكريم بل كانت متميزة عن باقي زميلاتها فكسبت رضا معلمها واحترام الجميع.
واصلت "نزيهة" حفظ القرآن الكريم إلى أن أتمت رُبعه، فانبهر الجميع لقوة حفظها وسلاسة ذاكرتها رغم حالتها الصحية التي لا تحسد عليها. لم تتوقف "نزيهة" عند ذلك القدر وإنما زادها فخر أهلها بها قوة ومثابرة على إتمام نصف القرآن الكريم إلى أن حققت مرادها فحفظت النصف، وكما تصف حالتها فتقول: "كلما تقدّمت في حفظ القرآن إلا وانتابني شعور بأني ولدت من جديد وأنسى أني فاقدة للبصر ، كما لو أن ذلك يعطي الضياء لعيني ". وهذا ما جعلها تواصل المثابرة لتختم القرآن كاملا حفظا وتكرارا وأحكاما (أحكام التجويد) وكل ذلك من خلال الاستماع وحده.
التقينا بنزيهة وسألناها عن مشوارها في حفظ القرآن الكريم وعن المدة التي استغرقتها في الحفظ فأجابت: "دامت مدة حفظي للقرآن الكريم عاما ونصف". لقد أبهرت "نزيهة" كل من سمع هذا الكلام، لأن الأمر ليس بالهيّن – كما ذكر معلمها وزميلاتها – ثم إن الأمر أصعب إن كانت الحالة في مثل حالة "نزيهة"، ويضيف معلمها: "فقدان البصر لا يمكّن أحدا من المثابرة بهذا الشكل إلا أن كانت له إرادة قوية وكبيرة".
سألنا "نزيهة" عما إذا حظت بتكريم لائق لهذا التحدي فأجابت أنها حظت بتكريمين، الأول من طرف مدرستها في حفل تخرج دفعة الطالبات، والثاني من طرف أحد رجال الأعمال الذي كرّمها بعمرة إلى البقاع المقدسة رفقة والدها الذي دأب على رعايتها ومساعدتها في نيل مرادها طول حياتها.
توالى حديثنا مع الطالبة حول احتياجاتها بعد هذا النجاح، فذكرت أنها ترتاد مدرسة ولائية في مقر الولاية "ورقلة" والتي تبعد عن مقر سكنها بـ 140 كلم، وهذا من أجل تعلّم القراءة من الكتب المطبوعة بتقنية "البراي" الخاصة بالمكفوفين، حيث ترتاد هذه المدرسة مرة كل أسبوع وفي ذلك مشقة كبيرة حسب قولها. فكان مطلبها الوحيد هو أن يتوفر لديها هذا الكتاب كي تستطيع استغلاله كما يجب وتنال فضل القراءة من المصحف إضافة إلى الاستماع إلى المذياع أو التلفاز.
كان آخر كلام "نزيهة" رسالة ترسلها إلى من هم مثلها في وضعية إعاقة : "تأكدوا بأن الله تعالى مهما سلبك نعمة إلا وأبدلك خيرا منها و ما عليك إلا الإيمان بذلك و البحث بداخلك عنها". و بالفعل فرغم هذه الحالة التي قد يظن الناس أنها أكبر مانع عن التقدم والنجاح، إلا أن "نزيهة" برهنت للعالم أن أحلامها لا تقف عند توقف عينها عن مشاهدة نور الحياة، فالنور نور القلب – كما تقول – والنجاح نجاح العقل في تخطي الصعاب.