و نظرا لكونهم مطاردون باستمرار من طرف وحدات بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في مالي (MINUSMA) و القوات الخاصة لعملية البرخان بقيادة الجيش الفرنسي، فإن الجهاديين أجبروا على تغيير استراتيجيتهم بحيث يبدو أنهم أصبحوا يفضلون تقنيات حرب العصابات لمزيد ترويع الأهالي و إنهاك متتبّعيهم. فالأمر بات واضحا اليوم: المجموعات المسلّحة تبذل قصارى جهدها لتفادي المواجهة المباشرة مع الجنود الفرنسيين أو الماليين. كما أنهم أحيٙوا طريقة الهجمات الانتحارية التي تمكّنهم من حصد أكبر عدد ممكن من الأرواح و هو نفس المبدأ الذي يتوخّونه لدى زرع الألغام يدوية الصنع في كل جزء من أرجاء شمال مالي. و بالتالي فإن الأهالي الذين ذهب في اعتقادهم أنهم تخلّصوا نهائيا من الخطر الإرهابي، إنما ضنّوا ذلك بسبب نوع من السذاجة المفرطة.
فلئن كانت استعادة السيطرة على الشمال سريعة، فقد تبيّن بمرور الوقت أن العديد من الإرهابيين تمكّنوا من التسلّل عبر ثغرات الشِّباك التي نصبتها لهم عمليتا سفرال و برخان. و للنجاح في إلهاء الأعين عنهم اكتفوا فقط بالانصهار داخل الأهالي بينما غادر بعضهم المنطقة قبل أن يعودوا إليها لاقتراف جميع أشكال الجريمة فهم انخرطوا كذلك في عمليات سطو على السيارات بغية تمويل أنشطتهم القذرة.
مجموعات مسلّحة مثل القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي (AQMI)، المرابطون، أنصار الدين، الموجاو أو كذلك جبهة تحرير الماسينا يتوفّر لديها ما يكفي من الإمكانيّات للقيام بعمليّات إرهابية واسعة النطاق و هي مازالت قادرة على إلحاق أضرار كبيرة و هامة بالبلاد و العباد بالرّغم من الضربة القاصمة التي وجّهها إليها الجيش الفرنسي خلال السنوات الأخيرة الماضية.
فالضحايا الآن يعدّون بالعشرات. من بينهم مامادو الذي فقد رجله من جراء لغم زرعته مجموعة ارهابية بالقرب من كيدال. مامادو يشتكي لنا معاناته وهو مستلق على حصيرة بالية فيقول : "إنهم يهاجمون جميع الناس الآن، حتى المدنيين. لم تعد وحدات برخان و البعثة الأممية لاستقرار مالي هدفهم الوحيد... و أنا لست إلا واحدا من ضحاياهم العديدين. ماذا سأفعل لأعيش الآن؟ من سيعيل أطفالي؟"
التصعيد الذي تشهده العمليات الإرهابية بدأ ينجح في القضاء على النشاط التجاري بكيدال و بالمناطق المجاورة. فمنذ استئناف الهجمات الدموية، قلّ عدد الزوّار كثيرا و توقفت المبادلات التجارية و أصبحت الدكاكين خاوية من المواد الغذائية. أحد كبار التجار بمدينة كيدال و هو متعوّد على التزوّد بالسلع من جنوب الجزائر يشتكي من كساد تجارته فيقول : " منذ 2013 و أرقام المبادلات التجارية بالمنطقة في تراجع مستمر. إنها كارثة حقيقية و إن تواصلت الأمور على هذه الوتيرة سنعلن جميعا إفلاسنا و سنغلق دكاكيننا. كيف يمكننا الاستمرار في جلب السلع إذا كنا نعلم جيدا أننا في نهاية المر سنتعرّض للسرقة؟ فالطرقات لم تعد آمنة كما كانت من قبل..".
المدينة كلّها تعاني من هذا الوضع في الحقيقة. فحتى الرّعاة أصبحوا يخشون من أخذ قطعانهم للمرعى خارج التجمعات السكنية. موسى آغ آشارومان و هو مربّي جمال يشرح لنا معاناته قائلا : " ماذا تريدونني أن أقول لكم؟ أصبحنا لا نجرؤ على المخاطرة بالذهاب خارج المدينة فالرعاة معرّضون لمخاطر الألغام المنتشرة في الكثبان و المراعي كما أن الكثير من منابع المياه أصبح من الصعب الوصول إليها بسبب ذلك و حتى ماشيتنا معرضة للخطر".
من جهتها، فإن وحدات القوات المسلّحة المالية و الوحدات التابعة لبعثة الأمم المتحدة لاستقرار مالي لا تدّخر جهدا لضمان الأمن في المنطقة و لطمأنة الأهالي. لكن عملها ليس بالهيّن طالما أن المجموعات المسلحة مازالت غفيرة و أن المساحة المعنية بالمراقبة شاسعة. هذا ما اعترف لنا به سيدي محمد آغ ساڨيد و هو احد أبرز المسؤولين بالجيش في المنطقة : " لم نتمكن لحد الآن من ضمان الأمن على امتداد اراضينا بسبب تواجد الإرهابيين و لدينا دائما شعور بأنهم منتشرون في كل مكان. إنهم يقومون بهرسلتنا كما أنهم نجحوا في استعادة قواهم و بٙأسهم بل إن البعض من هذه المجموعات ضاعفت من ضراوتها كما تشهد على ذلك أفعالهم اللاإنسانية". هذا و قد أكد السيد آغ ساڨيد ، نبأ زرع العديد من الألغام في كثير من الطرق.
هذا القلق عبّر عنه كذلك رئيس مركز الأمن بأدجال-هوك و الذي يعمل أيضا لفائدة بعثة الأمم المتحدة لحفظ الاستقرار في مالي : "نحن بصدد تطهير المنطقة لكنني أعترف بأن الأمر ليس سهلا فالجهاديون كُثُر و هم منتشرون في كل مكان". كما يضيف محدثنا أن الإرهابيين لديهم إمكانيات مادية هامة تسمح لهم بمنح رواتب شهرية للشبان الذين يستقطبونهم قد تصل إلى 200.000 فرنك من عملة المجموعة الإفريقية أي ما يعادل نحو 300 يورو. كما لا ينكر محدثنا أن "المجموعات الإرهابية تتمتع بنفوذ كبير في بعض المناطق". و لكن الأهالي الذين، في معظمهم، لم يتمكنوا من نسيان كابوس 2011، يصلّون ليلا نهارا حتى لا يرجع النزاع المالي إلى نقطة البداية.